عمو سولين

إبراهيم اليوسف
ما إن ينقطع الصديق الكاتب إبراهيم محمود عن التواصل معي، حتى سرعان ما أعلم أن ثمة شاغلاً كبيراً يمنعه، لذلك أجدني أعمد إلى محاولة  الاتصال به، أسأله: ما الخطب؟، وغالباً، ما يكون سبب ذلك سفراً، أو عارضاً صحياً، أو نحو ذلك. في الأسابيع الأخيرة انقطع تواصل أبي عبر الواتساب، بعد أن حل بدلاً عن البريد الإلكتروني الذي اضطررنا للجوء إليه،منذ أن عزت لقاءاتنا، وغدت متقطعة: مرة في الإمارات، وأخرى في هولير.
هتفت إليه، قبل أيام، مستفسراً عما شغله عن التواصل، فحدثني عن قلق ما قبل سفر فلذة كبده، الأميرة سولين، التي أتذكرها طفلة صغيرة، تملأ داره، قبل أن أراها طالبة ثانوية مع ابنتي هلبست تتابعان دراستيهما، لتبتعد ابنتي عن الجامعة بعد تسجيلها فيها، مكرهة، ولتتابع هي دراستها إلى حين، متحملة متاعب الحصار والحرب، من دون أن تحقق كل ما أرادته، كما مئات آلاف الأطفال من طلاب وتلاميذ سوريا، إن لم أقل كما الملايين..!
يوم أمس زارنا وأسرته أحد أصدقائنا المشتركين، قادماً من بريطانيا. هتف إبراهيم لصديقنا، أو العكس، لا أدري، لأعلم أن إبراهيم- الآن- يعود من مطار هولير، مودعاً سولينته، لتطير إلى ألمانيا، بعد محطة بغدادية فرضتها التحولات التي تعرض لها إقليم كردستان في ظل الحصار والغدر والحرب والخيانة. التقطت الهاتف، سمعت أبا مالين قليلاً، كان صوته موغلاً بالحزن العالي. الحزن الذي لا يبوح به-عادة- في صورته الصادمة، إلا لبعض مقربيه، وأنا كنت شاهد بعض انكساراته، وإن عن بعد بسبب وجودي في المرتين، خارج قامشليتنا: رحيل أبيه- رحيل أمه. إذ ثمة إبراهيم آخر، دائماً. إبراهيم الإنسان. إبراهيم المتجرد من عوالم الكتابة، ودوافعها، وطقوسها. قلت لضيفي:
غداً، سأكتب عن سولين
ثمة مشاغل عطلات أعياد رأس السنة، وميلاد السيد المسيح التي تضفي ترتيباتها، على حيواتنا، كمهاجرين، وإن كنا نعرفها في مدينتنا المشتركة: قامشلو- قامشلي- القامشلي. مدينة جميع أهلها، بعيداً عن الهويات متضخمة الفوارق المدونة  بفوسفور الحرب والكراهية. هذه المشاغل الطارئة التي أجدني مكرهاً للتفاعل معها، لدواع أسرية، واجتماعية، منعتني من إيجاد فسحة للكتابة عن عمو سولين، ابنة صديقي إبراهيم، كما أكثر من عمل كتابي مخطط له. ليس لأنه من هؤلاء الذين يكتبون في أولادي-وإن في كتاب العائلة الخاص- نصوص الفرح والحلم في هذه المناسبة، أو تلك، وإنما لأنني، الآخر، ممن يكتبون في المقربين منهم، كما إبراهيم، وآخرين، كما كل من أعرف، على امتداد الخط البياني ليومياتهم أنى كان هناك ثمة داع، واستقرائي لصوت أبي مالين، دعاني أن أعرف مدى سطوة ألم فراق ابنته الوحيدة، رفيقة أمها، بل رحت أخمن مدى شساعة وعمق ألم أم مالين- وهذا من حقها- لأنني ورفيقة دربي ندرك ذلك، لأننا لم نر ابنتنا الكبرى منذ سنوات، وهو ألم يسير إذا ما قورن بآلام أهلنا السوريين. أهلنا في كردستان، في ظل الحرب اللعينة التي كان اسم الطاغية بشار الأسد عود ثقابها الذي تفنن القتلة المحليون، والدوليون في استثماره، وهم يوقدون أوار الحرب الكبرى، من دماء، وعظام، وأشلاء أجساد الأبرياء..!
اليوم، صباحاً، حاولت أن أهتف لأبي مالين. رد علي برسالة صوتية، لن أشرح نبرة صوته، فهو شأن آخر. حدثني عن مقاله الأخير-في ولاتي مه- عن سفر ابنته. قال: ثمة أخطاء طباعية فيه، لأن أصابعي لم تكن لتتحكم بالكيبورد. هل أقول أكثر؟ هل أشرح مشاعر الأب، وحده، هنا، وهي تملأ كوكباً أرضياً بالألم. فماذا، إذاً، عن مشاعر آباء وأمهات الشهداء، ومن غرقوا في البحار، ومن تاهوا في دروب الهجرات، ومن هم في منفردات وزنازين وسجون آلة القمع، بأدواتها اللامتناهية. أدوات الماكينة الواحدة، وهوما أعد من بين أكثر من كتبوا له: مقالاً، وشعراً، وسرداً خالصاً، بيد أن كل ما كتبته لا يعادل أنة طفل جريح، أو طفلة جائعة، أو أم أو أب يعيشان ألم فقد ابن أو ابنة..!
توزعت أسرة إبراهيم بين: دهوك الكردستانية التي لاحقتها شرارات الحرب نفسها، كما كردستان كلها، وبين: الإمارات، وأكثرمن بلد أوربي، أكثر من مدينة أوربية. حيث يتوزع قلبه. روحه. كيانه بين كل الأمكنة في مراكزهما، شأن شتات العصر الأكبرالذي طرأ كي نصدق قانون موجات الهجرات، ليكون جميعهم ضحايا الحرب، ممسوسين بها، وإن كانت الهجرات أبسط ضريبة في معاييرنا، أو أعظمها، من دون أية مقارنة بمأثرة شروط البقاء في الوطن، وهو الذي يمكن قياسه في مستوياته، ودواعيه، ومقوماته، على صعد كثيرة.
أن أكتب هنا، عن الهجرة، فهي هم سوري، هم كردستاني، صنو”……..” ما لا أريد تسميته من آلام إنساننا، ومكاننا، وهوغير قابل للتجاهل. غيرقابل للتناسي، تحت أية دعوى، من لدن أي”مزايد” يعن في باله ذلك، لأن مايحصل من قتل، ودمار، وخراب، أسس من أجل هذه الهجرة المريرة حصراً. هجرة من لم تكن الهجرة حلماً له ولأسرته. كما حالتينا: الإبراهيمان، كما أزعم، لولا الحرب القذرة..!
أجل، أبا مالين- صديقي- هذه سنة هذه الحرب المفروضة علينا جميعاً، إذ لم يكن في بال كلينا يوماً ما-حقاً- أن نعيش خارج مهادنا، لولا ما تعرض له كل منا،”مما تعرض له” كما سوانا من أهلنا، إلى الدرجة التي غدونا فيها أمام  أفراغ قرى، وبلدات، ومدناً من ذويها، في إطار مايرسم للمكان. وقد تهيأ لكلينا قبل الحرب السفر، إلا أننا رفضنا ذلك، وكنا نعود إلى مسقط رأسينا الذي لابد منه، أنى توافر الظرف المناسب.
أهنئك وأم مالين، المرأة الطيبة التي تحتاج حياتها أن تكون محور أكثر من كتاب. إنها أنموذج المرأة التي تصنع الكتاب، من دون أن يظهر اسمها عليه، وهو أمر آخر، يحتاج إلى الحفر، والتعمق في تناوله. أهنىء أبنة أخي سولين، لوصولها، إلى بيتها الجديد،  لتلحق برفيق حياتها. ضمن حلقة الأبناء على الآباء، كما تصرفنا مع آبائنا، كما سيتصرف أحفادنا مع آبائهم، لنكتشف أخيراً أننا لسنا سوى أطفال كبار، بتنا نستسلم لدورة الحياة، أو ماكنتها الرهيبة …!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…