الصديق الايسري
ثقافة الحياة وثقافة القبور لكل منها عالم خاص تتميز بالارتقاء والتغيير والأخرى بالضعف والانحدار وصورها الإنسانية تظهر بأشكال لا حدود لها ، يرى الدكتور أحمد عكاشة عالم النفس الكبير ( أن الأخلاق قد تسعد الناس أكثر من الأديان .. وللأسف الشعوب تتقاتل باسم الدين، لكن لم نسمع عن شعوب تقاتلت باسم الأخلاق ..) ولما قرأت قصيدة الشاعر عصمت شاهين دوسكي ” ثقافة القبور ” عدة مرات كأنه طبيب أو مصلح اجتماعي يكشف بواطن الأخلاق الإنسانية والفكرية والاجتماعية وهذا ليس غريبا فمنهج الأديب الحقيقي أن يضع يده وقلمه على الوجع الإنساني ومنها الثقافة الإنسانية بكل دروبها فيدخل الشاعر في صور شعرية ظاهرة للعيان تؤثر سلبا على الفرد والمجتمع ،
تظهر من أصحاب القرار أو من شرائح المجتمع الثقافي فترديد نفس المقولة نفس الكلام نفس الوعود على منابر عديدة دون شيء جديد على أرض الواقع هي لأزمة أزمة فكرية أخلاقية ثقافية اختارها الشاعر عصمت شاهين دوسكي كمدخل لعالم طغى عليه التكرار وإعادة نفس الأقوال و الكلام، نفس الخطاب ذاع وانتشر بنفس الوتيرة لا تجديد و لا عصرية و لا مسايرة التحضر وآليات التقدم فصار واجهة مألوفة ومعتادة عند المتلقي ، فأصبحت بذلك عملة كساها الصدأ موشومة في العقل الباطني ومحفوظة في الأذهان والعقول بما تتسم بها من بوح معسول وحلاوة الحوار كله غش و بهتان، فصور التكبر و الافتخار هي السائدة والرائجة في جميع الميادين و الملتقيات بصوت جهور ومرتفع يصم الآذان، حيث يقول عصمت الدوسكي في قصيدته ثقافة القبور .
(( ردد ما تقول
لا جديد في وجهك المنشور
حفظنا الكلام المعسول
والطلة الفخورة والصوت الجهور )) .
نفس الأنانية تتكرر ونفس الكلام لقد اختلط النابل بالحابل وكل من هب ودب يتقمص زورا وبهتانا شخصية مرموقة في عالم المعرفة والعلم و العكس من ذلك فهو في الأصل ينتمي إلى حثالة الناس الضعاف الغير الموهوبين بكثرة جهلهم وغزارة غبائهم، فنجد الكثير منهم يشاركون في الملتقيات الأدبية والثقافية بقصائد شعرية يغيب عنها الإحساس والشعور بمضمونها، أبيات شعرية فقدت الذوق الرفيع لركاكة ألفاظها والابتعاد عن القوافي والأوزان وبحور الشعر وعدم إتقانها لأسس التفعيلة ولا نظم النثر ، لذا صنف الشاعر عصمت شاهين دوسكي هذه الفئات الهجينة بالشعرور ما أن تسمعهم إلا وتصاب بالغثيان والاشمئزاز. والمصيبة تقمصوا أعلى المناصب وتسلقوا أسمى المستويات بعد أن زوروا شهادات تعليمهم ونالوا الاستحقاقات الوهمية بسرقة أوسمة الشرف ونياشين النبوغ وتنويهات المعرفة وشراء الشهادات العليا وإصدارها دون رقيب فأعلنوا بذلك عن بطولتهم ورئاستهم لأفخم المناصب وحصلوا على الأموال الباهظة والجوائز النفيسة و المكافآت الغالية رغم أن قامتهم عرجاء عوجاء لا عماد ولا متانة لها فأسسها مبنية على الغش والزور مثل الكرسي المكسور القوائم.
(( ردد ما تقول
أصبحت دكتورا ، عالما ، شاعرا
أم شعرور
سرقت الشهادات الكبرى
وأعلنت انك بطل مغرور
لا يضاهيك احد فخامة ومالا
وقدم كرسيك مكسور )) .
نفس التكبر يتكرر علنا على الملأ لكونها تستغبي الناس بنشرها لثقافة القبور وتنشر ثقافة الخوف من المحيط ومن الحاضر ،فبدأت هذه الفئة ينشرون سموم ثقافتهم على شاشات التلفزة وعبر الأثير وفي الملتقيات الثقافية والمنابر العلمية ثقافة تجعل الموت شيء مقدس يجب الاستعداد له بكل ما أوتي من قناعات هستيرية عن عذاب القبر وبعد الموت سينالون نصيبهم من حور العين والغلمان وبهذه الوسيلة الممجدة للموت استطاعوا أن يخدروا الطموحات العقلية و يزعزعوا درجات الوعي والمعرفة بعيدين عن الإيمان الصحيح و تصديق دار الآخرة و فصارت أفكارهم المؤثرة سوداء وظلام دامس، ثقافة غابت عنها العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية والمساواة فهم دسوا في عقولهم طابور الموت و ثقافة القبور.
(( ردد ما تقول
على الشاشات اللامعة
والمنابر الميتة
منهجك المعنى
بعيدا عن دار ودور
فهذا عدلك بلا عدل
وهذا عصرك أجمل العصور
متباهيا ، متألقا ..
تنشر على الملأ ثقافة القبور )) .
تمكن الشاعر عصمت شاهين دوسكي لدقة مفاهيمه وكثرة حضوره في الملتقيات الخطابية والمحاضرات الميدانية وتواصله المستمر مع مستجدات الأحداث وغزارة معرفته بأسرار وخبايا الإنسانية من حقوق وواجبات أن يضع الأصبع على الداء وأن يقربنا من بؤرة التوتر ومكمن الكارثة التي تتجلى بالأساس في الجهل والأخلاق الذي يحملوه هؤلاء في وجدانهم و كيانهم، هم أناس يشترون الضمائر الحية بعد أن غمروهم بثقافة القبور وغيروهم بأخشاب مسندة لا عقل و لا روح كفنوهم بغطاء الجهل وأماتوا فيهم بوادر الذكاء والنشاط المعرفي، فالحب عند هؤلاء المرتزقة سوى عملة ترتفع وتهوى حسب رغباتهم و ميولهم فالغرام صار وزنا حسب القيمة المالية القليلة أو الوفيرة فأصبح الحب بين أيديهم في سوق النخاسة يشترى ويباع حسب النزوات والشهوات فليس الجسد عندهم سوى حكاية ألف ليلة وليلة حيث النهد يفقد الرضاعة والأمومة ويكتسي حلاوة وقطرات العسل حسب الليالي الحمراء الماجنة، هؤلاء الأذلاء المهينون فقدوا إنسانيتهم و أحاسيسهم و مشاعرهم وكل الضمائر اختزلت في الأنا النرجسية ، فباقي الناس ليسوا إلا أحجار الرهان والقمار يغلب عليها لعبة حسابية محتملة بين الحقيقة و الخيال صار الإنسان عندهم مسألة حظ كما في ( لعبة الدومينو ) فهم لا يملكون طهارة القلب وصفاء الروح ونقاء النفس فالعشق عندهم ذبذبات من الغش والخداع فالنساء عندهم مجرد حور العين أي نساء شديدة البياض يتسمن بعيون جميلة وبهية وشخوص بلا روح حولها حيث سيلتقون بهن بعد الممات في اعتقادهم و إيمانهم أما في الحياة فالجهاد والغرائز والنكاح لا يقف في طريق سيوفهم المسلولة بمجرد إخراجها من غمدها تبدأ عملية التمتع بساديتهم و كبتهم الجنسي ناسين كل مبادئ الإنسانية و المروءة فينزلون بجهلهم إلى أدنى مستويات الحيوانية.
(( ردد ما تقول
ليس بينك وبين الجهل حامل ومحمول
الحب عندك مال وفير
ونزوات وجسد ونهد معسول
والإحساس فيك فقط ( أنا )
والباقي كحجر دومينو حساب محلول
والقلب عندك ، عاشق مزيف
وكل النساء حور عين
لسيفك المسلول )) .
فبهذا الجهل والمظاهر السلطوية وثقافة القبور سيطروا على المنابر الإعلامية فصاروا ينشرون غسيلهم النتن و العفن و يرسلون صورهم المرئية التي تمثل خطواتهم الهليودية المتموجة و مشيتهم الخفيفة مثل ملوك بني الأحمر فعند كل طلة من قنواتهم للصرف و النفايات تتشابك الحروف و تتلعثم الشفاه و تضيع معاني الإرسال بين الأكاذيب والبهتان عبر نزعة شديدة الانحطاط و الانبطاح ثقافة الموت المدروسة واستراتيجية القبور وكل الطرق والمناهج تؤدي إلى اللحد.
(( ردد ما تقول
واجمع القنوات الإعلامية
تأخذ صورا نجومية
وتمشي الهوينى كملك أو بهلول
يهرب الحرف من فمك
يتلعثم الكلام ناقل ومنقول
ما جدوى أن تكون أو لا تكون
وثقافتك بلا ثقافة
بصمت القبور مجبول ( ).
مازال الشاعر عصمت شاهين دوسكي ينقلنا إلى عالم الحربائية الملونة بأشكال مختلفة في الحياة ،يتلون حسب المكان والأهداف صار كل شيء مفضوح فالوعد والعهد تلاشت حقيقته وصراحته بفعل الخداع والنفاق والشقاق ، حتى الابتسامة الظاهرة للعيان تكسرت وتفتتت وسقطت الأقنعة وبدت عيوب ومساوئ الشفاه المتعثرة والابتسامة المصطنعة فقد انفجرت السدود وأزيحت السواتر وأزيلت الحواجز ولاحت في الأفق علامات الضعف و الهون وتجلت للجميع آثار الزمن وتجاعيد الحياة فأصابتهم الدهشة و الحيرة فتاهوا بين دهاليز السيادة الوهمية فما عرفوا أهم رؤساء أو مرؤوسين ؟ بفعل أكاذيبهم وأوهامهم تكسرت رؤاهم فضاعت صورتهم بين الخيال والوهم فما فطنوا لصعودهم أهو نزول أم طلوع ؟ فسرعة بهتانهم تنطوي عليه ذاكرة النسيان أصابها الخداع والنفاق بأسلوب ثقافة القبور.
(( ردد ما تقول
توعد والوعد عندك موعود
تبتسم وقناع ملامحك ظاهر
فلا حواجز ولا سواتر ولا سدود
بان فيك الوهن
تجلى فيك الزمن
واحتارت كلماتك بين قائد ومقيود
تكذب والكذب منهج
تلمع واللمع درج
تصعد ، يا ترى صاعد أم مصعود )) .
هنا يطرح الشاعر عصمت شاهين دوسكي قصة الواقع حيث تحيط به من كل الجوانب الأغلال والقيود والسجون و سلب الحريات الكل مقيد بفكر الموت رغما عنه في وجدانه وكيانه تلمح باقات الورود و الهدايا والشهادات المزورة و يحمل زورا لقب حامي القيم والأخلاق والقلم والقرطاس الأدبي والثقافي وخطاب منع الحروب والدمار وسفك الدماء زورا ،ويوزع صكوك الغفران و يجعل السلم والسلام وفكر التسامح هو المرجو وكلها أكاذيب و غش للإنسانية باسم المعبود .
(( ردد ما تقول
يجمع حولك ، أمامك
أيدي في معصميها قيود
وفي أحضانها باقات زهور
وهدايا وشهادات وورود
تعلن انك حامي القيم والقلم
وتمنع سفك الدمع والدم
وتحقق السلام المعبود ) .
ثقافة الموت والقبور هي المسيطرة على الظالمين والفاسدين والجاهلين والمسلطين على رؤوس الناس فلا مجال للعلم ولا للفكر ولا للأدب فالسواد الأعظم تاه بين الجهل وبراثين الموت فلا وجود للحياة والجمال وللإنسانية تحت مظلة ثقافة القبور .
(( ردد ما تقول
فلا علم ولا فكر ولا أدب
والسواد الأعظم ، مازلت موجود )) .
هكذا يكشف الشاعر عصمت شاهين دوسكي صور ثقافة الحياة وثقافة القبور من خلال أزمة الثقافة الضحلة وهي أزمة إنسانية أخلاقية التي تضعف البلاد والعباد، لاحظنا عدة مرات ( ردد ما تقول ..) وهي لم تأتي من فراغ بل تدل كل واحدة منها على الصورة الشعرية التي أراد الشاعر أن تكون وتجسد المعنى والمضمون الذي لمسه الشاعر عصمت دوسكي ليقرب الحالة الإنسانية للقارئ وضوحا ومضمونا ، على المجتمعات والبلاد الإنسانية أن تعي أن الأدباء والعلماء والمثقفين والمبدعين هم ثقافة الحياة وأركان التقدم الفكري والتطوري والإبداعي في كل زمان ومكان فلا حياة بلا ثقافة متقدمة ولا حياة في بلاد بلا أدباء مبدعين .