الطحال

يلمار سودر بيرغ
ترجمة: فرمز حسين
حياتي  بلون حلم غامض  مربك نادر الوجود. المصابيح الأولية منها قد بدأت عملياً بالتوهج , منذ أن تركت سكني ليلة أمس بعد أن قضيت فيه النهار كله  و أنا أفكر بلغز الحياة. و أصبت بالإحباط لأنني لم اجد تفسيراً له . قلت مناجياً نفسي: أنت أحمق و تهدر أيامك بالتفكير بما هو عقيم و أنت تعرف حق المعرفة بأنك حتى إذا عرفت ماهية اللغز فتلك المعرفة لن تجعلك أكثر سعادة .عوضاً عن ذلك أصرف جهدي في لعبة شطرنج في أربع حركات. و لكن تبين لي أن  قوة حدسي لم تكن كافية حتى لذلك أيضاً. و رميت برقعة الشطرنج من النافذة لتسقط على رأس رجل عجوز بقدمين خشبيتين حيث جاءه الموت كعمل وحيد جيد له و من بعدها ألقيت بنفسي بين حشود العالم و أنا محتقراً روحي.   
طقس الليل كان دافئاً ، صحواً و كان في سكون رائع. من فوق القصر ظهر القمر بدراً كاملاً مثل كاهن عجوز, أصفر مائل للاحمرار و كبير بشكل بديع .أصوات البشر كانت ترتفع باتجاه الشارع مثل دوران ألف ساعة و ذكرتني بالتفكيرفي الوقت و الثواني التي تتسرب من بين يدي. سمعت صوت حافلة الترام وهي تتوقف بالقرب مني فوثبتت إليها , بقيت جالساً فيها لدورات عديدة  و هي تسير في حلقة دائرية. هذه التسليه كانت لها قدرة نادرة  على تبديد الوقت في وضعي الصعب.تخيل لي بأن العالم كله  يدور من حولي كأرجوحة. و عندما كنت طفلاً وكنت أركب الأراجيح لم أكن أتمالك نفسي عن الضحك و هذا ما يحصل لي الآن ايضاً. كنت قد مكثت راكباً الترام  بالكاد ثلاث دورات فقط  في خط سفرها الدائري هذه قبل أن أبدأ الضحك بصوت عال جداً.
مساء الخير سمعت صوتاً قريباً مني ثم أدار بوجهه باتجاهي من المقعد الذي أمامي. وجه شاحب و طويل  بذلت قصارى جهدي لأتذكره دون جدوى. أعرفك من ضحتك  تابع قائلاً  انت تضحك بنفس الطريقة التي كنت تضحكها في جنازة عمتي منذ سبع سنوات.حينها كان الكاهن يواسينا بالمواعظ للتخفيف من حزني و أحزان بقية الورثة. أنت أضحكتنا جميعاً, الكاهن أيضاً, و لربما حتى عمتي المتوفاة نفسها أنت لك روح مرحة.
أجبت بلطف نعم أنا روحي مرحة جداً . و أنت سيدي العزيز؟
أخ ..دعك من الحديث عني ، أنا شخص متأتئ لانفع فيه، لقد أصبحت كذلك منذ أن توفيت عمتي .
نعم أعرف ذلك , قلت و أنا شارد الذهن.
تعرف ذلك؟ سأل محدقاً بعينين كبيرتين جاحظتين حزينتين. من قال لك ذلك؟
عرفتها من تلقاء نفسي , قبل أن تموت عمتك كنت سعيداً و بهيجاً و مفعماً بالأمل  في انتظار أن تموت فترثها و الآن أنت ورثتها و الآن ليست لديك عمات أخريات كي ترثهن أي بمعنى آخر لم يعد هناك  من أمل آخر لك و لذلك أنت حزين هكذا بكل بساطة.
الرجل المسكين لم يحدق هذه المرة بعينيه فقط بل حتى بفمه و بدى كل شخصه ثلاث نوافذ ضخمة.
معك حق أجاب أخيراً , أنت قلت كلمات كنت أفكر بها منذ زمن طويل. شكراً , شكراً من القلب.
ضرب على يدي بحركة من يديه تأكيداً على إحساسه بالعرفان و تابع : أنت أزحت صخرة من على صدري ليس هناك شيئاً أصعب من أن  تكون حزيناً دون معرفة السبب . لكن الآن انتهى الأمر و أنت قدمت لي خدمة كبرى دعنا نخرج معاً و نشرب نخب ذلك.
هذا الاقتراح الأخير أعجبني من نواحي عديدة . صحيح أنني لم استطع أن أتذكر اسم الرجل , لكنني منذ زمن بعيد قررت عدم الاهتمام بصغائر الأمور و ما أهمية تذكر اسم ما من عدمه؟
قفزنا من الترام إلى الخارج ثم صعدنا عربة أجرة و انطلقت بسرعة جنونية إلى استراحة صغيرة  بعيداً  خارج المدينة. في هذا العش الشاعري أمضينا وقتنا نأكل السمك المملح , الفجل و بطاطة طازجة و كذلك براندي نرويجي مع ثلاثة أنواع من الشمبانيا, بعدها قفزنا من النافذة و معنا زجاجة ويسكي و بعض المياه غازية و عندما انحدرنا وجدنا أنفسنا تحت سقف معدني و اطلالة رائعة على البحيرة الشاعرية المحيطة بأكاليل من الزهور و السهام ، شرب كل منّا جرعة ثم تابعنا حديثنا.
قلت الغنى للانسان مصدر الكثير من المتاعب .مرة  كان عندي صديق و كان يرتجف دوماً من البرد. لعب يانصيب هامبورغر على أمل أن يربح مبلغاً كبيراً يمكنه من شراء معطف من الفرو . وربح ثلاثمائة ألف كرونة . و رِبْحُ مبلغ كبير بهذا الحجم لا يمكن اخفاء أمره على الناس و لذلك علم به أصحابه جميعاً  و اضطر ان يقرض القسم الاكبر من المبلغ في وقت قصير جداً و بالكاد بقي  لديه مبلغاً يكفي لشراء فراء تقليد من فرو القندس ، و لكنه لم يفعل , و كيف يستطيع فعل ذلك ، لقد علم الناس جميعاً بأنه قد ربح النقود من اليانصيب و كيف له أن يتجول لابساً معطفا ربح ثمنها من اليانصيب. لا.. لا يمكن ذلك اطلاقاً. بكل تاكيد ..نعم..نعم.
جلسنا صامتين لحظة  كل مشغول مع أفكاره . و فجأة نهض السيد كيلبيرغ  ( كان مع شرب الكأس الخامس من النوع الثالث للشامبانيا قد صارحني باسمه). و بنظرة فرح خاطفة في عينيه سألني :
ماحجم أكبر جائزة في يانصيب الهامبورغر؟
أظن بأنها خمسمائة أو سبعمائة ألف. أجبته. على الأقل هي ليست ستمائة ألف بكل تأكيد لأن المشرفون على عالم ألعاب اليانصيب يعرفون حق المعرفة بأن للأرقام الفردية سيطرة قوية على خيال الإنسان مقارنة مع الارقام الزوجية.
أي على الأقل خمسمائة ألف ردد كيلبيرغ . لقد كان مبلغ مائتي ألف هو كل ماورثته عن عمتي . و إذا لعبت بيانصيب هامبورغر أستطيع أن أقول بأن هناك أمل بأن أجعل ثروتي تزداد أكثر من الضعف, أي يكون عندي أمل بمثابة أن أرث عمة و نصف العمة و بهذا سوف يكون عندي ما أعيش لأجله.
طبعاً بكل تأكيد المستقبل يبتسم لك من جديد.
نعم أستطيع أن أقول سوف يصبح لدي أمل . أريد أن ألعب بيانصيب هامبورغر.
لكن إذا ربحت ؟ عندها أكون قد خسرت كل شيء, و لا يتبقى لي سوى الموت!
يلمار سودربيرغ  كاتب سويدي
1869-1941
من أشهر أعماله 
الأوهام 895 1 رواية
شباب مارتين بيرك   رواية قصيرة 1901
قصص قصيرة جداً 1898
دكتور غلاس 1905 رواية
اللعبة الخطيرة 1912 رواية
بالاضافة إلى أعمال مسرحية و قصصية أخرى.
القصة المرسلة هي من مجموعته القصصية “
Historietter 1898
قصص قصيرة جدا
فرمز حسين
ستوكهولم 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…