بقلم الأسير الفلسطينيّ: كميل أبو حنيش
ديوان “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين” للشّاعرة آمال عوّاد رضوان، هو أوّلُ ديوانٍ شعريٍّ أُطالعُهُ للشّاعرة آمال، لم يسبقْ لي مُطالعة دواوينها الشّعريّة الثّلاث السّابقة، وما أنْ باشرتُ بمُطالعتي، حتّى عثرتُ بداخلِهِ على ما هو جديد، فهو نصٌّ شِعريٌّ مُختلفٌ، مُتميّزٌ بثرائِهِ اللّغويّ، وأسلوبهِ، وإحساسِهِ العميق، وعاطفتِهِ الجيّاشة، وتأمُّلِهِ بالطّبيعة والتّاريخِ الثّقافيّ والرّوحيّ البشريّ، هو نصٌ مُلغّز، يستقي مُفرداتِهِ مِن الطّبيعة، وهو ما يعكسُ ثقافةَ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وشفافيّتَها، ونُضجَها، وإحساسَها الوجوديَّ المُتجاوزَ التّاريخ البشريّ، حيثُ يَعبُرُ بنا النّصّ، ويُعيدنا إلى الأزمنةِ السّحيقة، ويَحملُنا على أمواجِ الحنينِ والشّوقِ إلى الطّبيعةِ البكر.
هذا الدّيوانُ – مِن ألِفِهِ إلى يائِهِ- عبارةٌ عن قصيدةٍ واحدة، مَركزُها شمسُ الأنوثة كونيّة الأمّ الأولى، ومثلما تحتلُّ الشّمس مركزَ عالمِنا، أرادت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان للمرأةِ وللأنوثة أن تُشكّلَ المعنى لهذا العالم، ومركزه وعِلّة وجودِهِ، وبهذه النّصوص الّتي تأتي على لسان الذّكر في تراتيلِهِ العشقيّة، الأنثى الّتي يُقدّسُها، ويرفعُها إلى مصاف الآلهات القديمات، ويرفعُ ذاتَهُ إلى مصافِ الإلهةِ بهذا الإجلال للأنثى، وهذه النّصوص تنطوي على السُّخط والاحتجاج على جفافِ الحياة الإنسانيّة وتآكُلِ القِيم، لا سيّما قيمة الحُبّ الّتي غدت مُفردةً مُبتذلة، ومُلوّثة في عصر الاستهلاك والانحطاط، حيثُ تلتمسُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في نصوصِها عودتَنا إلى الطّبيعة البكر، إلى أزمنة الخصب، والسّكينة والسّلام، والانسجام مع روح الطّبيعة، وإعادتنا إلى عصر الأسطورة، وعبادة الإلهةِ الأنثى الّتي كانت تُعبّرُ عن روح العالم وسِرِّ بقائِه، وقد ازدهرَ في العقودِ الأخيرة استخدامُ الأسطورة، وتوظيفُها في الأدب والشّعر العربيّ، وهو ما يعكسُ الحنينَ للماضي السّحيق، وهي تصوُّراتٌ رومانسيّة حالمة لأزمنة سديميّة لفجر الإنسانيّة، حيثُ سيادة الأصل الأموميّ، فيما كان يعُم السّلام والأمان، والعدل والمساواة، والانسجام مع الطّبيعة وعبادة الأنثى.
هذه التّصوّراتُ تنبعُ مِن رفضِ الواقع الإنسانيّ الحاليّ، والاحتجاج عليه بلغةِ الأدب والشّعر، وحسب هذه التّصوّرات، فإنّ المُجتمعَ الأموميّ القديمَ هو مُجتمعُ الانسجام مع الطّبيعةِ والخُضوعِ لقوانينِها، وأهمُّ هذه القوانينِ هو سيادةُ المرأة الّتي كانت تتفوّق على الرّجل في خصائصِها الإنسانيّةِ والعاطفيّةِ والرّوحيّة، وتسليمُ الرّجلِ لسيادةِ المرأةِ في تلك العُصور، هو إقرارٌ بتَميُّزِها، لِما كانت تبثُّهُ مِن عواطفَ في أبنائِها وداخلِ المُجتمع المشاعيّ الأموميّ، ومُساواتِها بين الأبناء، وفي إطار المشاعة البدائيّة، وهي أيضًا حارسة النّار المُقدّسة، وهي الطّبيبة الأولى، وهي الّتي تزرعُ وتطهو وتبثُّ الأمانَ والسّلام، وهي الّتي تحمِلُ وتلِدُ وترعى صِغارَها، وبهذا هي مُتماثلةٌ مع الطّبيعةِ ومُنسجمةٌ معها.
لقد اخترعَ البشرُ الأسطورة الّتي كانَ مَركزُها الإلهةُ الأُمُّ وإلهاتُ الحُبِّ والجَمالِ الخصب، انسجامًا مع روح الطّبيعة، لأنّ الإنسانَ القديمَ تأمّلَ الوجودَ مِن حولِهِ، فعثرَ على الأنوثةِ في كلّ الظّواهر (الشّمس، القمر، الأرض، الأشجار، الحيوانات.. إلخ)، فعَبَدَ الأنوثةَ الكامنةَ خلفَ هذه الظّواهر، وربّما كانت الشّمس أبرزَ هذه الظّواهر بشُروقها وغروبها، فأدركَ أنّها سببُ الحياةِ على هذه الأرض فعَبَدَها، ولهذا اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الشّمس رمزًا للأنوثةِ الّتي تلمعُ بينَ نصوصِها الشّعريّة، والأسطورة قديمةٌ قِدَم الإنسان، حيثُ احتلّتْ أهمّيّةً فائقةً، في حياةِ الجماعات والشّعوب القديمة قبل ظهور الأديان الحديثة، فالأسطورة مجازٌ يُحاولُ أن يُفسّر الواقع، بهدف إضفاء المعنى على الوجود.
ليس بوسع الفنّ والأدب والشّعرِ الاستغناء عن الأسطورة لا سيّما الشّعر، لأنّه يمتلكُ ما تمتلكُهُ الأسطورة مِن مجازٍ وفنٍّ، ولغةٍ متجاوزة للواقع وما يتركه من انفعالات النّفس الإنسانيّة، والشّعر هو السّليلُ المُباشرُ للأسطورة، فهو ابنها الشّرعيّ كما يقول المفكّر فراس السّوّاح.
لقد اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الأسطورة في نصوصِها شكلًا، ومضمونًا ورمزًا، لِما تعتزمُ أن تُقدّمَهُ مِن رسائلَ في شِعرها، وما يُميّزُ آمال أنّها تمثّلت الأساطير القديمة، وأذابتْها واختارتْها لتُسقطَها في هذه النّصوص، ف”عشتار” هي رمزٌ لإلهاتِ الأمومةِ والحبِّ والجَمال، والخلقِ في مختلفِ المجتمعاتِ والثّقافات القديمة، و”عشتار” هي ذاتها “إنانا” وعشتاروت وعشيرة وعنات، وايزيش وأفروديت وفينوس، وعشرات الآلهات الأسطوريّات في هذه الثّقافات.
إنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان متمثّلة لأساطير الخصب والخلق الشّرقيّة، الّتي حاولتْ تفسيرَ تقلّباتِ الطّبيعة مِن خصبٍ وجفاف، وتكادُ مختلفُ أساطير الخصب والخلق الشّرقيّة تتشابهُ في شكلِها ومضمونِها، فدائمًا ثمّةَ موتٌ للإله الذّكَر الّذي يرمزُ إلى موتِ وجفافِ الطّبيعة في أشهر الصّيف والخريف، فتهبُّ الإلهة الأنثى زوجةُ الإله القتيل لإنقاذ الطّبيعة من الجفاف، مِن خلال افتداء الإله الذّكر القابع في العالم السُّفليّ، وتموت عوضًا عنه، وهو مُحاكاةٌ للأنثى الّتي تلدُ وتُعاني آلام المخاض، وهي تُضحّي بنفسِها وحياتها، كي تستمر الحياة.
لعلّ أوّلَ أسطورةٍ شرقيّةٍ معروفة هي الأسطورةُ السّومريّة الّتي تُحاولُ أن تُفسّرَ موتَ الطّبيعة وعودةَ ازدهارها، إذ يلعبُ الإلهُ “دموزي” المُلقّب بالرّاعي، والإلهة “إنانا” إلهة الحُبّ والجَمال السّومريّة، الدَّوْرَ الأبرزَ في هذه الأسطورة، حيثُ يموت “دموزي”، فتموت معه الطّبيعةُ ويهبطُ للعالم السُّفليّ أي عالم الموت، الأمر الّذي يدفع “إنانا” لتُضحّي بنفسها وتموت، وتحلّ مكان “دموزي” في العالم السُّفليّ الّذي يعود، فتزدهرُ الطّبيعةُ وتحيى من جديد، وقد جاءت الأسطورةُ البابليّة على أنقاض الأسطورة السّومريّة، بصيغةِ الإله “تمّوز” والإلهة “عشتار”، حيثُ تتطابقُ الأسطورتان ويموت “تمّوز” ويهبط للعالم السُّفليّ، فتهبط “عشتار” لتُخلّصَهُ من الموت، فتقتلُها الإلهةُ أرشيكيجال إلهة العالم السُّفليّ، وتقضي هذه الإلهةُ ببقاء “تمّوز” على وجه الأرض نصف عام ومثلها في العالم السُّفليّ، ويجري تبادلُ أدوار الحياة والموت بين “تمّوز” و”عشتار”.
هذه الأسطورةُ تكادُ تتشابهُ مع بقيّةِ أساطير الخصب الشّرقيّة، مع اختلافِ الشّكل لا المضمون، حيثُ نجدُها في ثُنائيّة “أدونيس” و”عشتاروت” الفينيقيّة وبعل وعنات الكنعانيّة وايزيوس وايزوريس المصريّة.. إلخ، والعامل المُشترك بين هذه الأساطير أنها تُحاول أن تُفسّر أسباب الخصب والجفاف في الطّبيعة علاوة على موت الإله الذّكر وافتدائه من قِبل الإلهة الأنثى الّتي تموت مكانه كما في أسطورة “دموزي” و”إنانا” و”تمّوز” و”عشتار”، أو تسارع الموت وتنتصر عليه كما في أسطورة بعل وعنات.
*”أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين” هذا الدّيوان الّذي حمل اسم الإله “دموزي” والإلهة “عشتار”، أمّا “دموزي” فلم يكن زوجًا لـ”عشتار” وإنّما لِ”إنانا”، وربّما اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان اسم “دموزي” لأسباب فنية أما اختيارها لـ”عشتار” إنّما جاء لرمزيتها ووقع اسمها وبلاغة حضورها من بين الآلهات الأسطوريّات الاُخريات. كما سنُلاحظ أثناء تحليلنا لبعض النّصوص في هذا الدّيوان أن الشّاعرة آمال عوّاد رضوان اختارت الشّمس كرمز لـ”عشتار” حيثُ جاءت مُناجاة “دموزي” أي الرّجل لـ”عشتار” أي المرأة على شكل تراتيل دينيّة، وكأن عنوان الدّيوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) أشبه بصلاة مرفوعة للشّمس أي لـ”عشتار” أي المرأة في صيغة (أعبُدكِ وتتألّقين)، أو أُحبُّكِ وتنتعشين.
إنّ اختيارَ الشّمسِ كرمزٍ في الدّيوان لهُ مدلولاتُهُ، فالشّمسُ هي مركزُ العالم، وهي الأقوى حضورًا من بين الكواكب والنّجوم، وهي سببُ الخصب والنّور والحياة والدّفء في هذا العالم، وقد كانت الشّمسُ أوّلَ ما لفَتَ انتباهَ الإنسان القديم، منذ أن بدأ يُدركُ وجودَهُ في الطّبيعة، فعَبَدَها ونحتَ دمًى أنثويّةً على شكلٍ بشريّ في الصّخور والكهوف، ونحتَ إلى جانب هذه الدُّمى ومن فوقها منحوتاتٌ شمسيّة، وهذه الدُّمى اتّفَقَ الباحثون والمُختصّون على تسميتها بالدُّمى العشتاريّة، اختصارًا للإلهات الأُمّ.
إنّ العباداتِ الشّمسيّةَ كانت شائعةً في الحضاراتِ القديمة، لا سيّما في مصرَ والهند وبلاد الرّافدين، حيثُ كانت الشّمسُ تُعبَدُ بوصفِها إلهة أنثى، قبل أن يجري الانقلابُ الذّكوريّ، وقبل تحويل الآلهات الإناث إلى آلهة ذكور، ففي بلاد الرّافدين استمرّت عبادةُ الشّمس لدى السّومريّين وكذلك البابليّين، حيثُ كان الإلهُ “مردوخ” إلهًا للشّمس، وفي مصرَ عُبدت الإلهة “حورس” و “رع” كآلهةٍ للشّمس، بإطار تعدّديّة عبادة الإلهة قبل أن يعتلي الفرعون أخناتون العرش، ويجعل من الإله “آتون” الإلهَ الأوحدَ في مصر، وهو إلهُ الشّمس، ويُطالبُ شعبَهُ بعبادتِهِ، وتشتهرُ تراتيلُ وتسابيحُ أخناتون المرفوعة للإله “آتون”.
هذه التّراتيلُ شبيهةٌ بنصوصِ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، الّتي جعلت “دموزي” يرفعُ صلواتِهِ وتراتيلَهُ لـ”عشتار” المرأة، وقد كان مُعتقَدُ أخناتون يقوم على أساس الإيمان بالهٍ واحدٍ للبشريّة، وهو الإله “آتون”، وهذا الإله هو قوّةٌ مُجرّدةٌ صافية ليس لها شكلٌ مُحدّد، كانت الشّمسُ مُتجلّيةً في عالم الظّواهر، فهي الطّاقةُ الكونيّةُ الّتي تبعثُ الحياةَ والمعنى والأملَ في الوجود، و”آتون” إلهُ الشّمس الفرعونيّ له ما يُوازيهِ في المُعتقدات السّومريّة، لا سيّما الإله “أوتو” أي إله الشّمس، وأيضًا الإله “دموزي”، وكذلك المُعتقدات الفينيقيّة، لا سيّما الإله “أدونيس” أو” آدون”، وهو قريب من اسم الإله آتون المصريّ، فالآلهة “أدونيس” و”تمّوز” و”دموزي” لها علاقةٌ مُباشرةُ بالشّمس، إذ تتميّزُ هذه الأساطيرُ بوصفِها أساطير للخصب والحياة، وذلكَ باختفاءِ وظهور هذه الآلهةِ مرّةً كلَّ نصفِ عام.
وإلى جانب هذه الأساطير هناك أيضًا الأديان والمُعتقدات الزّرادشكيّة والمانويّة، وأصحاب المُعتقدات الهنديّة الّتي تقومُ على عُنصري النّور والظّلام، وعبادة بعض مظاهر الطّبيعة كالشّمس والقمر والنّجوم، وعلى ما يبدو فإنّ هذه المُعتقدات والأساطيرُ قد تركتْ تأثيرَها في وجدان الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وتمثّلتها وسكبتْها في نصوصِها الشّعريّة، بحيث جعلت النّورَ والشّمسَ رمزًا للأنثى “عشتار”، بدلًا من الآلهةِ الذّكوريّة، وقُلبت المُعادلةُ، بهدف تصحيح هذا الخلل التّاريخيّ الّذي وقعَ بفعل الانقلاب الذّكوريّ، الأمر الّذي ينطوي على الاحتجاج، ويستبطنُ الشّعورَ بالاجحاف، فأرادتْ مِن خلال نصوصِها الشّعريّةِ العودةَ إلى الطّبيعةِ، حينما كانت السّيادةُ للأنثى وإعادة تأليهِها من جديد، كما كان عليه الحالُ في عصر الأسطورة الأولى، عندما كانت الآلهةُ الذّكورُ تدورُ في فَلكِ الإلهةِ الأنثى، كما تدورُ الكواكبُ في فلَكِ الشّمس.
وفي التّرتيلة السّومريّة للإلهةِ “إنانا” الّتي هي ذاتها الإلهة “عشتار”:
إنّي ملكةُ السّماء
وما من إلهٍ قادرٍ على مُنازعتي
لي السّماءُ ولي الأرضُ
هذه التّرتيلةُ ترمزُ إلى تفوُّقِ الإلهة الأنثى على الآلهةِ الذّكور، كما هي مركزيّةُ الشّمس في عالمِنا.
وفي ترتيلةٍ بابليّةٍ للإلهة “عشتار”:
أي “عشتار”
يا سيّدةَ البَشرِ أجمعين
ومُسدّدةَ خُطاهم
وهذه التّرتيلةُ ترمزُ إلى سيادة “عشتار”، أي المرأة في المجتمع القديم، كما تبسطُ الشّمسُ سيادتَها.
أمّا اسم “عشتار” فهو اسم بابليّ، معناهُ؛ عيش الأرض أي حياة الأرض وخصبها وازدهارها، و”عشتار” هي الإلهةُ الأمّ الكبرى، ومن هنا جاءَ اختيارُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان لـ”عشتار” من بين الآلهات الإناث، لتُتوّجَها عنوانًا لديوانها، ولتتوهّجَ حروفُها مِن بين نصوصِها الشّعريّة.
وعلى ما يبدو، بأنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تأثّرت بالنّصوص الصّوفيّة، فتجلّى بين النّصوص الكثيرُ من المُفردات الصّوفيّة؛ كالفيض والأنوار والإشراق، وهو ما يُسمّى بالتّصوُّف الإسلاميّ العرفان؛ أي الإحساس الباطنيّ، وفي كتابه (لغز “عشتار”) يقول فراس السّوّاح: إنّ العرفانَ يُضيءُ النّفسَ في ومضاتٍ تشتعلُ وتنطفي، كأنّما تصدرُ عن تماسٍ مع قوّةٍ حفيّةٍ إلهيةٍ عبرَ قناةٍ صافيةٍ مُباشرة، قوّة رآها الأقدمون في “عشتار”، أي الحكمة الأنثويّة الخالدة (ص242).
هذا هو حجرُ الزّاويةِ في ديوان الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الّتي اختارت “عشتار” كشمسٍ تفيضُ بأنوارِها، لتكونَ علّةً للحياة وتعبيرًا عن الحكمةِ الأنثويّةِ الخالدة.
لقد أرادت الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان إعادتَنا إلى الطّبيعة وجَمالها وتلقائيّتها، وإعادتَنا إلى الشّمس وعطائِها وصفائِها ودِفئِها وبداهتِها، إلى “عشتار” والآلهات المعبوداتِ اللّواتي كُنّ يُجسّدنَ الزّمنَ الحقيقيّ السّاطع في التّاريخ البشريّ السّحيق، فكان شعرُها يعكسُ هذا الحنينَ الجارف لذلكَ الفهم الرومانسيّ المُتخيَّل، كما يعكسُ الظّمأّ للحبِّ الّذي تنشدُهُ المرأةُ مِن جانب الرّجل، (يُتموزُها أي يعشقها حتّى تتألّق كالشّمس وتمنح المعنى والحُبَّ والجَمال والعطاء)، وأي يأتي هذا الحُبُّ على شكل عبادة، فاستخدمت الأساطيرَ القديمةَ وصهرَتْها، لتصنعَ منها هذه السّبيكةَ الذّهبيّة، وتُعيدَ الاعتبارَ للأنثى المرأة الّتي اختصرَتْها بـ “عشتار”، واختارت الشّمسَ بإفاضتِها وشروقِها وجمالِها كما هو حضورُ المرأة، أمّا غروبها فيُشبهُ غيابَ المرأة أو موتَها أو قهرّها أو احتجازَ حرّيّتها، فيغيبُ معها الحُبُّ والأمانُ والسّلامُ عن العالم، والنّصوص الّتي سنشرعُ في تحليلِها، تحملُ ثُنائيّةَ حضورِ وغياب شمس “عشتار” المرأة، وكما تروي أصولُ العلاقةِ العشقيّةِ بين الرّجل والمرأة كما ينبغي أن تكون، وعليه قتل مثل هذه العلاقة.
**أوّلًا:
غياب “عشتار” – المرأة في العالم السُّفليّ؛ (انقلاب الطّبيعة والتّاريخ): –
تُحاولُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان خلقَ نوعٍ مِن التّماثُل بين أنوثةِ الطّبيعة الّتي ترمز لها “عشتار”، وبين المرأة في المُجتمع ،وفي مقاربةٍ فلسفيّة تنطوي على الإيمان بأنوثةِ الكون والطّبيعة، قبل أن يجري اختلافُ دوْرِ المرأة في التّاريخ، والهيمنة عليها وقمْعِها، فالنّصوص تنبضُ بالاحتجاج وإنْ بلغةِ الصّمت، فتتمثّل الكيفيّة الّتي يجب أن تكون عليها علاقة الرّجل بالمرأة، أي العلاقة بالطّبيعة، ولكن بلغةِّ الشّعر.
في النّصوص التّالية سنجد أن الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تمثّلت أسطورة “دموزي” و”عشتار”، وباحت بها بلغةٍ شعريّةٍ صافية، تحملُ فلسفةَ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان وتصوُّراتِها، فلولا افتداء “عشتار” للإله الذّكر القابع في العالم السُّفليّ، لَما أعادت الحياة للطّبيعة، غير أنّ “دموزي” قبل انبعاثِهِ مِن العالم السُّفليّ، نجدُهُ يُناجي “عشتار” أن تُخلّصَهُ من عالم الموت والعماء الأبديّ، حيثُ تستجيبُ لمُناجاتِهِ وتوسُّلاتِهِ، وتُضحّي بنفسِها وتحلُّ مكانَهُ في العالم السُّفليّ، فيما ينبعثُ “دموزي” إلى الحياة، فإنّه لا يكتفي فيواصلُ مُناجاتِهِ لها، لأنّه لا معنى لحياتِهِ دونها، لأنّ العالمَ سيظلُّ بحالةٍ مِن العماءِ والموت، سواء كان هو في العالم السُّفليّ أو كانت “عشتار”، ففي كلتا الحالتيْن سيظلُّ خاسرًا، لأنّه لا معنى للحياة إلّا بحضور “عشتار” وتوهّجِها كما توهُّجِ الشّمس، لتمنحَ الطّبيعةُ النّورَ والخصبَ والحياة.
لقد أرادت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان ما هو أعمقُ من الأسطورة:
*نداءُ “دموزي” ومُناجاتُهُ هو نداءُ الحياة الخالد الّذي يتردّدُ صداهُ مِن العدم، لتلدَ الطّبيعةُ حياةً، حتّى يُدرك الوجودُ ذاتَهُ، ولا شيءَ غيرَ روح الأنثى المُتمثّل بـ”عشتار” يُمكنُهُ أن يُنجزَ هذه العمليّة.
*العالمُ السُّفليّ ينطوي على العدمِ ما قبل الولادة والعدم ما بعد الموت.
*”دموزي” يرمز إلى إرادة الحياة الكامنة، وهي تحثُّ “عشتار” لولادتِهِ من العدم الأوّل قبل الولادة، وإعادة بعثِهِ مِن جديد بعد العدم الثاني أي الموت.
*النّصوص التّالية هي مُناجاةُ الولادة من رحم العدم، ومُعاناةُ “عشتار” في هذه الحالة تُشبهُ مخاضَ الولادة.
*أمّا غيابُ “عشتار” في العالم السُّفليّ، فربّما يرمزُ إلى تغييب دوْرِ المرأة وقمْعِها واحتجاز حرّيّتها وإبداعِها، الأمر الّذي ينطوي على قتل الحياة الاجتماعيّة وجفافِها، واستغراقِها في الفوضى والحروب والقتلِ والذّلّ، وهو عصرٌ ظلاميٌّ كما تراه الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، فيما عصرُ الأُمّ المُتمثّل بـ “عشتار” هو عصرُ النّور والحياة، فتغييبُ دوْرِ المرأة في الحياة والمجتمع يُشبهُ الغيابَ الطّويل للشّمس عن العالم.
وتأتي هذه النّصوص على لسان الإلهِ الذّكر أي الرّجل، وليس على لسان “عشتار” الأنثى، حيثُ تبدو “عشتار” كما الشّمس تتصرّفُ بتلقائيّة، لأنّها مُنسجمةٌ مع روح الطّبيعة، وبهذا فإنّ نداءّ ومُناجاةّ “دموزي” أثناءّ مُكوثِهِ في العالم السُّفليّ لـ”عشتار”، كي تُنقذَهُ وتُخلّصَهُ مِن العماء، هو ذاتُهُ نداءُ الحياة في العدم الأوّل قبل الولادة والعدم الثاني بعد الموت، كما أنّها تحاولُ تسليطَ الضّوء على الجفاف في المجتمع الإنسانيّ، طالما يجري الاعتلاءُ على المرأة وتغييب دورها. لنتأمَل هذه النّصوص ص105:
هَاءَنَذَا.. جَامِحٌ فِي عَمَايَ
وَكَطَوْدٍ لَا يَتَزَعْزَعُ
أَنْتَصِبُ.. عَلَى قَلَقٍ يُمَزِّقُنِي!
رُحْمَاكِ
أَعْتِقِينِي مِنْكِ
مِنْ إِغْرَاءَاتِ أَوْهَامِي
مِنْ زَمَهْرِيرِ أحزاني!
أَزِيلِي حَرَاشِفَ الْغَشَاوَةِ
عَنْ عَيْني
وَاجْبِلِينِي .. قَصِيدَةَ ضَوْءٍ!
وفي هذا النّصّ تستبطنُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان جدليّةَ الحياةِ والموتِ والانبعاث، ففي العدم الأوِّل ما قبل الولادة، حيثُ تكمنُ الحياةُ في حالةِ عماءٍ تنتظرُ انبعاثَها مِن العدم، حيثُ تقول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان: *(أَعْتِقِينِي مِنْكِ): أي لِديني من العدم الأوّل وابعثيني إلى الحياة، وهي مُناجاةٌ لـ”عشتار” أي الأنثى الأُمّ الطّبيعة، أمّا في العالم الثاني أي العالم السُّفليّ، حيثُ يقبعُ “دموزي” في عماءِ الموت والعدم في انتظارِ انعتاقِهِ مِن عالم الموت، تجدُهُ يحثُّ “عشتار” للإسراع في تخليصِهِ مِن القلقِ وهاجس الانبعاث، ومن زمهرير العالم السُّفليّ وأحزانِهِ، وإعادتِهِ إلى النّور.
*(وَاجْبِلِينِي .. قَصِيدَةَ ضَوْءٍ): أي إعادة الخلقة مِن جديد، بعد أن غدا تُرابًا، وهو استجداءٌ لروح الأنثى الّتي تتمثّلها “عشتار” أن تبعث فيه الحياة، ليُدركَ ذاتَهُ مِنَ العدم الأوّل، وأن يُواصلَ حياتَهُ بعدَ العدم الثاني، ويُواصلُ “دموزي” مُناجاتَهُ لـ”عشتار” ص102:
أَنَا مَنْ كُنْتُ أَبْرَعُ
فِي لُعْبَةِ الاخْتِفَاءِ وَالتَّجَلِّي
دُونَ نُوَارِ سَمَاوَاتِكِ
فَاحَ طَوْرُ عَمَائِي!
وحسب الأسطورة ثمّةَ تبادلُ أدوارٍ بين “دموزي” و”عشتار” في العالم السُّفليّ، واعتيادُهُ للظّهور والاختفاء أي الموت والحياة كلّ نصف عام، وهو ما يشبهُ دورةَ الحياة في الطّبيعة وتعاقُبَ الفصول، والعماءُ؛ العدم الأوّل قبل الولادة، وعماءُ العدم الثاني بعد الموت، والطّبيعةُ الأنثى هي “عشتار” أي المرأة تلدُ الوجودَ الحيّ، ليُدركَ ذاتَهَ في الطّبيعةِ النّابضة، وتُنجبَ الذّكورَ أي “دموزي” الرّجل الّذي ليستْ غايتُهُ الحياة وحسب، وإنّما مُعاودة الالتحام بالأنثى، والتّزاوج معها لمواصلةِ إنجاب الحياة.
وفي نصٍ آخر يواصل “دموزي” مُناجاتَهُ ص115:
أَيَا غَابَةَ ضَوْئِي
مَنَافِذُكِ كُلُّهَا مُغْلَقَةٌ
وَلَنْ يَكُونَ لِي أَوَانٌ آخَرُ
وَقْتِي يَصْحُو مُعْتِمًا .. يَشِيبُ بِعِنَادِكِ
وَلَيْلِي يَتَقَصَّفُ .. مُتَبَرْعِمًا بِيَأْسِي الْأزليّ!
“دموزي” الّذي لا يزالُ قابعًا في العالم السُّفليّ، صباحُهُ كمَسائِهِ، نهارُهُ كلَيلِهِ، في مكانٍ تلفُّهُ الظُّلمةُ الأبديّة الدّامسة، ولا شيء غير اليأس المُطبق، وهو ينشدُ ضوءَ الحياة المُتمثّل بـ “عشتار” الّتي تأخّرت في المجيء، لذا نراهُ لا يكفُّ عن توسُّلاتِهِ لـ”عشتار” ص126:
لَا تَلْتَهِمِي شُعَاعَ سُوَيْعَاتِي
بِدَامِسِ ظُلمِكِ
وَلَا تَغْسِلِي دَمِي.. بِالطِّينِ .. بالْغُبَارِ
بَلِ اِرْوِي طَرِيقِيَ.. بِخُضْرَةِ أَنَامِلِكِ
وَانْبُشِي أَعْشَاشَ ضَوْئِكِ
عَلَّكِ تَبْعَثِينَنِي .. أَنَا الْمَنْسِيُّ
فِي مِشْكَاةِ عَتْمَتِكِ الْبَهِيَّةِ
وَعَلَّنِي أَنْبَثِقُ ذَاكِرَةً حَيَّةً .. مِنْ شُقُوقِ النِّسْيَانِ!
*(فِي مِشْكَاةِ عَتْمَتِكِ الْبَهِيَّةِ): إنّها إرادة الحياة الّتي تتحفّز للانطلاق من العدم الأوّل، أي ولادة الوجود من الطّين والغبار والدّم، أي مِن الرّحم الكونيّ، أي العماء والظُّلمة الّتي يكمنُ في داخلِها النّورُ والحياةُ، وأيضًا الانعتاق مِن العالم السُّفلي، أي الموت، والانبثاقُ بذاكرةٍ حيّة أي الانبعاث من جديد.
“دموزي” الّذي يتهيّأ للانبعاث يهتفُ ثانية من العالم السُّفليّ ص129:
أنَا الْمُزَرْكَشُ.. بِظِلِّ وَسَنِي الْأَزْرَقِ
لِمَ أفْشَتْنِي .. عُيُونُ السّماء الْعَوْرَاءِ؟
لِمَ تَلَاشَتْني .. أرْيَاشُ الشّمس الْهَوْجَاءِ؟
مَنْ يَنْتَشِلُنِي .. مِنْ شَلَّالَاتِ هَوَامِشِي؟
*في عالم الموت لا شيءَ هناك غير عتمة الظّلال القاتمة، ولا يُرى ما يَبعثُ على الأمل أو نور الحياة، ولا سُبُلَ لانتشالِهِ وإنقاذِهِ مِن هوامشِ العدم، وإعادتِهِ للحياة وولادة الوجود الحّي.
*ثمّ يأتي دوْر “عشتار”، فتهبطُ إلى العالم السُّفليّ، وحلولُها مكانَ “دموزي” الّذي ينبعثُ ثانيةً للحياة، وهو ما يشبهُ الولادةَ مِن رحم الأنثى، حيث ينفصلُ عنها كأمّ، لكنّه ينشُدُها كزوجةٍ وحبيبةٍ لتحقيق غايةِ الخصب والتّناسُل، وأيضًا سعادة الحبّ بجانبها، فسعادتُهُ لا تكتملُ بولادتِهِ وعودتِهِ من العالم السُّفليّ، ولا بانتظار الطّبيعةِ مِن بعدِ جفافِها، لأنّه لا معنى دون “عشتار” أي دون المرأة.
*”عشتار” الغائبة عن العالم السُّفليّ، أي البعيدة عن الرّجل تظلُّ حاضرةً في كيانِهِ وأعماقِهِ، ويُعبّرُ عن هذا الحضور بالحبِّ والشّوقْ والحنين، وكأنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تودُّ القولَ، إنّ الغايةَ ليست الخصبَ والولادةَ والحياةَ بحدِّ ذاتِها، وإنّما ثمة غاية أعمق عشقًا، هي غاية الحبّ والاكتمالِ، مِن خلال الاتّصال الجنسيّ بـ “عشتار”، وبغيابِها لا يكتملُ معنى الوجودِ وانبعاثُ “دموزي” من العالم السُّفليّ، بعبارة أخرى؛ الحياةُ بوصفِها مُعطًى ليست هي الغايةُ بحدّ ذاتِها، ما لم تترافقْ بوجود “عشتار” المرأة، وكأنّ الحياةَ أو عدَمَها سيّان بغياب “عشتار”، فالذّكورةُ لا تحيا دونَ الأنوثة، وهي الّتي ولدتْهُ وأوولجتْهُ إلى الحياة، والآن يأتي دورُهُ في التِماسِ “عشتار” بهدفِ الالتحام معها وإخصابها وعشقِها، لذا نجدُهُ لا يزال يُناجيها، كما لو كان لا يزالُ قابعًا في العالم السُّفليّ. وتقولُ ص4:
يَابِسَةٌ سَمَاوَاتِي
أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي
أَأَظَلُّ .. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟
اذًا؛ لا معنى لولادتِهِ وانبعاثِهِ للحياة مِن عالم العدم، ما لم يَحظَ بالمرأة. إنّهُ يشتهي حضورَها ويتوقُ إليها، ولا يُغني انبعاثُهُ ووجودُهُ على قيدِ الحياة دونها، لذا نجدُهُ يُناجيها ويَدعوها أن تُشاطرَهُ الشّغفَ والحُبَّ، والمُناجاةَ مثلما كان يُناجيها وهو يرقد في العدم، حيثُ يقول لها ص4:
أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ .. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ .. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ
وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ .. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ.. جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!
عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ
مُضَمَّخٍ
بِــــالْـــــ~~دَّ~هْـــ~شَــ~ةِ
ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي .. صَدًى
لِأَرْسُمَ .. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى!
لأنّ انبعاثَها مِن العالم السُّفليّ يكمنُ في مناجاتِهِ والتماسِهِ كما كان يلتمسُها، وهي دعوةٌ للدُّنوّ للاقتراب والالتحام، ليكتملَ انبعاثُهُ بانبعاثها، وهذه المناجاةُ هي النّداء السّرّيّ، أي الحبّ الّذي مِن شأنِهِ أن يجذبَ الذّكورةَ للأنوثة، وهو الأمرُ الّذي سينجُمُ عنه إضفاءُ المعنى على الوجود. ويواصل القول ص7:
سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ .. انْطَفَأَتْ
مُنْذُ .. أَلْفَ عامٍ .. وَغَيْمَةٍ
وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي .. تَتَحَجَّبُ
خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ!
في غياب “عشتار” أي المرأة، لا معنى للحياة ولا معنى لخصب الطّبيعة، وإن كانت غايةُ “عشتار” بهبوطِها للعالم السُّفليّ، إنقاذَ الطّبيعة مِن الجفاف، غير أنّ ثمّةَ غايةٌ أخرى قد تكون أسمى، وهي غايةُ الحبّ الّذي دونَهُ لن يكون هناكَ انجذابٌ بين الذّكورة والأنوثة، فالحبُّ هو كلمةُ السّرّ في الطّبيعة، وهو جذوةُ نارِها المشتعلة، لذا؛ نجدُ “دموزي” يُعلن عن هُيامِهِ بـ “عشتار” حين يهتف ص11:
صُورَتَكِ الْـــــ .. تُـــثِــــيـــرُ فِيَّ كُــــلَّ حِــــرْمَــــانِــي
وكَفَرَاشَةٍ .. أَحْتَرِقُ بِرَحِيقِ هُيَامِكِ!
أَغُورُ .. فِي صَخَبِ لِسِانِكِ
أُسْرِفُ .. فِي اشْتِهَاءَاتِهِ الْمُعَتَّقَةِ
وأَغُوصُ .. فِي صَرْخَتِكِ النَّقِيَّةِ!
إنّ غيابَ “عشتار” هو بمثابةِ حضورٌ مُكثّفٌ في القلب، ينبعثُ على شكلِ عواطف وشوق وحبّ واحتراق وانتظار، كما في النّصّ التّالي ص17:
سَأَنْتَظِرُكِ
بِأُفُقِي الْمُشَرَّعِ عَلَى مِصْرَاعَيْكِ!
انتظرَ “دموزي” بزوغَ شمس “عشتار” الغائبة، وهذا الغيابُ مُتأجّجٌ لوعةً وشوقًا وحرمانًا، تُعبّرُ عنه الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان على لسان “دموزي” العاشق في النّصوص التّالية ص75:
مُذْ غَادَرَتْنِي .. غُدْرَانُ مُحَيَّاكِ
انْطَفَأَتْ .. ذُبَالَاتُ عَيْنَيَّ!
إنّ استمرارَ غياب “عشتار” هو بمثابة موت لـ “دموزي”، وكأنّهُ لا يزالُ في عماء العالم السُّفليّ، ولن يكونَ بوُسعِهِ أن يرى ثانيةً إلّا بعوْدتِها، بعبارةٍ أخرى؛ لن يكتملَ معنى وجودِهِ إلّا بحضور المرأة في حياته، وسيظلُّ يحلمُ بها كما في هذا النّصّ ص83:
فَيَغْفُو لُهَاثُ لَيْلِي
عَلَى أَهْدِابِ غِيَابِكِ!
وأيضًا في هذا النّصّ ص96:
أَنَّى يَشِينِي مَوْجُكِ الْغَافِي
عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ؟
هَا عَتَمَاتُ نُورِي
مَدْفُونَةٌ فِي أَقَانِيمِ هُطُولِكِ
تَنْتَظِرُ مُرُورَ اللَّا مُرُور!
نورُهُ مُعتمٌ في غيابِها، وخصْبُهُ جافٌّ دونَ هطولِها، وهذا النّصُّ يُشبهُ ترتيلةً لـ “أخناتون”، وهو يُناجي الإلهَ “آتون” إلهَ الشّمس: عندما تميلُ وراءَ الأُفق الغربيّ/ تغرقُ الأرضُ في ظلامٍ كأنّهُ الموت
ويُعبّرُ “دموزي” أي الرّجل عن إحباطه على هذا النّحو ص109:
هَا حَاضِرِي .. مُقَنَّعٌ بِبَرِيقِ يَأْسِهِ
يَنْقُشُ الضّوء .. عَلَى مَرَايَا أحزاني!
يَا مَنْ كُنْتِ مَاضِيَّ
أتوهّج .. بِإِيقَاعِ تَقَاسِيمِكِ الْيَانِعَةِ
ومَا زِلْتِ تَنْزِفِينَ .. جَمَالًا وَشَوْقًا
عَلَى حُدُودِ الذّكرى!
لا يزال “دموزي” يائسًا، يرتعشُ شوقًا وحبًّا بانتظار عودة “عشتار” من العالم السُّفليّ، فالماضي هو ماضي “دموزي” في العالم السُّفليّ، في لعبةِ تبادُلِ الأدوار الأزليّة الأبديّة، أمّا الماضي بالنّسبة للرّجل هو لعبةُ الولادة والخصب، ففي اللّا وعي العميق يحتاجُ إلى الأنثى الّتي أنجبَتْهُ وانفصلَ عنها، لكنّه يَنشدُها ليعودَ ويلتحمَ بها لإكمال غاية الحياة باستمرار، لأنّ وجودَهُ حيًّا ليس هو الغاية، إنّما الغاية هي الحبُّ واستمرار ذلك بالحياة، وإلّا فإنّها ستستحيل إلى عماء كما في النّصّ التّالي ص116:
وَمُذْ مَضَيْتِ .. فَقَأَتْنِي عُيُونُ أَكْوَانِي
وَفَوَانِيسِي.. الْــ عَهِدْتُها
تَلْتَقِطُ مِنْ مَحْجَرَيْكِ.. وَهْجَكِ
تَعَرَّتْ.. مِنْ أَهْدَابِ خُضْرَتِكِ
وَبَاتَتْ خَرَائِطي فَوْضَوِيَّةً
لَا تَعْرِفُ التَّمَرُّدَ
إِلَّا.. عَلَى يَبَاسِ خَيْبَاتِي!
بدون الشّمس الأنثى الّتي تشتركُ في حياته، سيظلُّ في حالةٍ أشبهَ بعماء العدم، ويُضيفُ في نصٍّ آخرَ ص142:
سَمَائِي .. مَلْغُومَةُ الْغَمَامِ
دُونَكِ
رِيحِي مَشْلُولَةٌ .. ليْسَتْ تُزَوْبِعُهَا
إِلَّا شَهْوَةُ حَرَائِقِكِ!
إنّ هذا التّوقَ المُتأجّج والمُشتعلَ لـ “عشتار”؛ للمرأة وللحبّ وللخصب، سيستحيلُ إلى عبادةٍ وتأليهٍ كما درجتْ عليه عادةُ الشّعوب القديمة، في تأليهِ الأنثى الّتي تُمثّلها “عشتار” ومثيلاتها.
**ثانيًا:
العبادة – تأليهُ الأنثى:-
إنّ نصوصَ ديوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) يتلخّصُ في عبادةِ وتأليهِ الأنثى أي عشقها، فالمعنى الكامنُ في عنوان الدّيوان ونصوصِهِ هو العبادة، أي الحبّ والعودة إلى الطّبيعة البكر الّتي ترى فيها الشّاعرة آمال عوّاد رضوان أنّها الأصلُ والأساس، وما دون ذلك يُعدُّ انقلابًا على الطّبيعة، والطّبيعةُ لا تكتملُ إلّا بانبعاث روح “عشتار” الكامنةِ في الطّبيعة، والّتي بدوْرِها لا تكتملُ ولا تتواصلُ رسالتُها إلّا بالحبّ وباتّصالِها بالذّكر، لإنجاز غاية الخصب والحياة، ومن أجل الوصول لهذه الغاية لا بدّ مِن عبادة الأنثى الكامنةِ في الطّبيعة أي عشقها، وهذا هو بيتُ القصيد، إذ تعني الشّاعرة آمال عوّاد رضوان بـ (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين)؛ أي أعبدكِ وأعشقكِ لتتألّقي وتزدهري.
لقد أرادت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الإيحاءَ، إلى أنّ الإنسانّ عندما أدركَ وجودَهُ في الطّبيعة، عبَدَ الأنثى المُتمثّلةَ بـ “عشتار”، وهو ما ينبغي أن يتواصل، لأنّ العبادةَ أي العشق مسألةٌ مُنسجمةٌ مع الطّبيعة، ودونَ هذا الحبِّ لن يكونَ مصيرُ الطّبيعة والمجتمع الإنسانيّ سوى الجفاف والموت، ولنتأمّلْ هذه النّصوصَ الّتي تنطوي على التّقديس والتّبجيل للأنثى ص46:
أَيَا مَعْصِيَتِي الْمُبَارَكَةُ
رُحْمَاكِ
أَطْفِئِي يَأْسِي.. بِنُورِكِ الْمُقدّس
وتتابع ص50:
كَمْ مِنَ الرَّوْعَةِ تَبْلُغِينَ؟
أَمَبْلَغَ هَيْكَلِ رُوحِي؟
وَمَا عَبَّدْتُ أَتَعَبَّدُ .. فِي مَعَابِدِ نَقَائِكِ!
وتقول ص57:
فَـــلْــــتَــــسْــــكُــــنِّــــي .. نِيرَانُكِ الْمُقدّسة
مَغْمُوزَةً .. فِي آهَةٍ لَا تَهْدَأ
لَنْ أَخْفِضَ عَيْنِي الْمُزَمْجِرَةَ
فِي خُضوعِكِ
وَأَبَدًا.. لَنْ أَهْمِزَ نَقَاءَكِ
فَلَا تَغِيبِي أَيَّتُهَا الْحُضُورُ!
وتتابع ص59:
بِمَرْهَمِ حَنَانِكِ الْبَهِيِّ
تَدْهَنِينَ.. قُرُوحَ مَوَاجِعِي!
حلْكَةَ يَأْسِي الدّامس .. تُضِيئِينَ
بِمَنَابِعِ آمَالِ يَمَامِكِ!
أَيَا قِبْلَةَ قَلْبِي
مَا كَانَتْ شِفَاهُ شَبَابِيكِي
لِتَنْغَلِقَ .. عَلَى أَنَامِلِكِ الْعَاجِيَّةِ
إِلَّا لِتَلْثُمَ عَيْنَيْكِ .. بِــ وَابِل ِقُبُلَاتٍ رَؤُومَةٍ!
وتقول ص 61:
أَعَبَثًا .. تَشَهَّيْتُ قَلْبَكِ الْأَتُونَ؟!
اُسْكُبِيكِ ضَوْءَ حَيَاةٍ .. فِي مُبْتَدَايَ وَمُنْتَهَايَ!
وَفِي غِمَارِ الْحُبِّ .. وَقِطَافِ الْحُلُمِ
سَرْبِلِينِي
بِعَبَاءَاتِكِ الْمُزَرْكَشَةِ .. بِشِفَاهِكِ الْهَائِمَةِ!
لنلاحظ استخدامَ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان لفظة “آتون”، وقد يكون استقطانًا للإله آتون إله الشّمس الفرعونيّ، لكن بصيغتِهِ الأنثويّة، ولدينا بعضُ التّراتيل الّتي كان يُرتّلُها الفرعون أخناتون لإلهة آتون، وهي شبيهةٌ بنصوص الشّاعرة آمال عوّاد رضوان وعلى شاكلة:
عندما ترتفع في الأُفق الشّرقيّ/ يملأ بهاؤكِ كل البلدان
تُحيط أشعّتُك بكلّ ما خلقت من أصقاع
وتتواصل النّصوصُ التّعبديّة لـ”عشتار” على لسان “دموزي” ص62:
أَيَا مَلِيكَتِي
هَا قَدْ بَدَأَ .. فَسَادُ الدَّهْرِ
وَلَمَّا تَزَلِي .. أزليّةً
أبديّةً .. فِي مَمْلَكَتِي الْجَبَلِيَّةِ
شِعْرُكِ .. خَرَائِطِي
رُوحُكِ .. بُوصَلَتِي
فَلَا تقلّبي .. ظَهْرَ النَّهْرِ
وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا
دَعِيهِ يَــــجْــــرِي
لِأُتوّجــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ
إنّهُ فسادُ الطّبيعة وجفافُها، وفسادُ الحياةِ الاجتماعيّة وانحلالُها، ودون أن تعودَ الأنثى للسّيادة والتّقدير والاحترام، سيبقى هذا الحسابُ قائمًا، وعودةُ الخلافة للأنثى يُشبهُ شروقَ الشّمس اليوميّ على العالم، ببقائِهِ مُلتهبًا حيًّا ومنسجمًا مع ذاته. ولا تكفُّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان عن استخدامِ الصّورةِ الطّقوسيّةِ التّعبُّديّة لـ “عشتار” ص73:
أَيَا نَغْمَةَ سَمَائِي الْمُقدّسةِ
يَجْتَاحُنِي جَمَالُكِ.. يُجَارِي آمَالِي
وتقول ص74:
هَاءَنَذا .. أُدَوْزِنُ أَوْتَارَ غُرْبَتِي
عَلَى كَمَانِ طَيْفِكِ الضَّبَابِيِّ
وَأَعْزِفُنِي مَزامِيرَ اسْتِغْفَارٍ
لِئَلَّا يَخْبُوَ.. مَجْدُ حُضُورِكِ!
وتتابع ص 78:
رُحْمَاكِ.. اِرْأَفِي بِي
لَيْسَتْ تَأْتَلِفُ غَيْمَتَانِ مُتَوَازِيَتَانِ
فِي وَمْضَةٍ أَوْ رِعْدَةٍ!
أَنَا.. مَنْ زَخَرَ نَبْضِي .. بـزَغَـارِيـدِ مَائِكِ
كَيْفَ أَتَيَبَّبُ؟
كَيْفَ تَسْتَوْطِنُنِي الْبَرَارِي؟
صَبَاحِي .. مُنْذُكِ زاهِدٌ
نَازَعَنِي فِيكِ
بَيْنَمَا أَنَا مُنْهَمِكٌ
فِي تَرْمِيمِ مَرَايَانَا الْمَشْرُوخَةِ
لكِنَّكِ بِطُقُوسِ بَوْحِكِ .. هَيَّجْتِ حَرْفِي وَضَوْءَ قَلْبِي
وتقول ص 99:
صَوْبَ نِعْمَةِ سَمَائِكِ .. كَفَّايَ خَاشِعَتَانِ
تَمْتَدَّانِ .. فِي أَزِقَّةِ نُورِكِ الْمُقدّس!
وتتابع ص 103:
فِي أَحْشَاءِ مَدَاكِ الْمُضِيئَةِ أَرْكَعُ
وفِي دَهَالِيزِ عَيْنَيْكِ الْمُشِعَّتَيْنِ
كَهَرَمٍ هَرِمٍ .. أَكْبُرُ وأَخْشَعُ!
القداسة، المزامير، الاستغفار، مجد الحضور، الرّحمة، الرّأفة، الخشوع، النّور المُقدّس، الرّكوع، كلّها مفرداتٌ وطقوسٌ في العبادة والتّقديس، ويواصل “دموزي” مُناجاتَهُ وتَعَبُّدَهُ لـ”عشتار”، باستخدام المزيد من الذّخيرة التّعبُّديّة ص 114:
رُحْمَاكِ
وَشِّي كُهُوفِيَ .. بِنَوَامِيسِ الضّوء
فَلَا أنثى تَمْلِكُ تَرْقِيَتِي سِوَاكِ!
وص127:
بَحْرٌ أَنَا
أَبِمَائِكِ أَتَحَمَّمُ وَأَحْتَمِي!
عَتْمَةُ الْوَحْدَةِ تُيَمِّمُنِي
بِفِتْنَتِكِ .. تُبَلِّلُنِي
وبحَرَائِقِ حَوَاسِّكِ .. أتَوَضَّأُ
وص141:
أَيَا سَطْعَ ليْلٍ .. يُنَازِعُنِي عِطْرَكِ الْمُنَمَّقَ
هَاءَنَذَا.. أُحَاوِلُنِي رَاهِبًا
أَسْتَدْرِجُنِي .. إلَى غِيِّكِ الْخَصْبِ
لِأَتَنَسَّكَ بِكِ .. وَأَتأجّج بِبَسْمَتِكِ!
الهدوء، الرّهبنة، التّنسُّك، التّرقية، النّواميس.. هي أيضًا مُفرداتٌ تحثُّ على العبادة والتّقديس. إنّ فِعلَ العبادةِ والمُناجاة من جانب “دموزي” للإلهة “عشتار”، سيُثمرُ في انبعاثِها مِن العالم السُّفليّ، كما تبزغُ الشّمسُ لتفضَّ الظّلام، وينبعث الوجودُ من العدم، وهذه الصّلوات والتّضرُّعات تنضوي على ضرورة حُبّ الرّجل للمرأة، والّذي سيُثمرُ بدَوْرهِ التحامُهما وتزاوجُهما معًا، لأنّه دون الحُبّ لن تستقيمَ الحياةُ الإنسانيّة، بل سيغزوها الجفافُ والتّلاشي والموت.
**ثالثًا:
انبعاث “عشتار” – تألّق الحُبّ:-
إنّ تراتيلَ “دموزي” وعبادتَهُ لـ”عشتار” أثمرتْ في عودتِها من العالم السُّفليّ، واكتستِ الطّبيعةُ بالحياةِ والنّضارة والجَمال، وعودةُ “عشتار” تشبهُ إشراقةَ الشّمس على العالم، فصار للوجود معنى، الأمر الّذي يجب أن يتناغمَ مع ضرورة عشق الرّجل للمرأة، ليس لحاجاتِ التّناسُل أو الرّغبة الجنسيّة وحسب، إنّما لحاجاتٍ نفسيّةٍ وعاطفيّةٍ وإنسانيّةٍ وأخلاقيّة، دونها لا تكتملُ الرّجولة، فحضورُ المرأة في حياةِ الرّجل هو ذاتُهُ بقاءُ الرّوح العشتاريّة الأنثويّة في العالم، لأنّه سِرُّ كينونةِ العالم ومُبرّرُ وجودِه. ومع عودة “عشتار” أي ازدهار الطّبيعة الّتي تتألّق مع شروق الشّمس، نجد “دموزي” يواصلُ تراتيلَهُ ص7:
أَنَا / مَا كُنْتُ
مِنْ رُعَاةِ الْغَيْمِ وَالسَّمَاوَاتِ
فَــفِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ
أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ
بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!
ويقول ص 8:
دَعِينِي .. أَكْمِشُ بَعْضَ بُرُوقِكِ
واُغْمُرِينِي .. بِحَفْنَةٍ مِنْ كَلِمَاتِكِ
لِأَبْقَى .. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ!
ويتابع ص 15:
أَيَا فَاتِنَتِي
أَنَا مَنْ خُلِقْتُ.. لِأَحْتَرِقَ بِكِ
احْتَرَفْتُ الاتِّكَاءَ
عَلَى غَيْمِكِ
على لهْفَتِكِ .. على جُنُونِكِ
وَقَدْ خَضَعْتُ .. لِحُلُمِي طَوِيلًا
فِي انْتِظَارِكِ!
حالُ هذه الرّغبةُ في الالتحام بالأنثى، تُشبهُ ازدهارَ الطّبيعةِ وتنَعُّمَها بأشعّةِ الشّمس الدّافئة، كما تُشبهُ حالَ الفراشةِ معَ النّار والنّور، حيثُ تسعى الفراشةُ بصورةٍ غريزيّةٍ نحوَ النّار الّتي تجذبُها فتحترق، لأنّ احتراقَ الفراشةِ يعني انعتاقَها واكتمالَها، والرّجلُ ينجذبُ للمرأة كما تنجذبُ الفراشة للنّار، ليَنعمَ بدفء المرأة كما تنعمُ الطّبيعة بالشّمس الّتي هي سببُ انبعاثِ الحياة فيها، لذا نجد “دموزي” مُمتنًّا لعودة “عشتار”، ومُحتفيًا بحضورها ص18::
سَلَامًا مُدَلَّهًا .. أَعْصِرُنِي
لِنُورِكِ الْبَهِيِّ
يَتَأتَّانِي .. مِنْ مُحَيَّا أَتَعَشَّقُهُ
لَهُ فِي جِرَارِ الْقَلْبِ .. أَلْفُ مَعْنًى وَمَغْنًى!
وتقول ص 111:
فِي سَاعَةِ نُهُوضِي
فُضِّي سَتَائِرَ ظُلْمَتِي
بِمَلَامِحِكِ الْمَعْجُونَةِ.. فِي جُزُرِ الْجُنُونِ!
وتواصل ص 50:
وَفِي دُجَايَ
تَفَتَّحَ نُورُكِ .. زَهْرًا وَنُوَّارا
بِكَفَّيْكِ أَمْسَكْتُ.. لِأَعْبُرَ أَنْهُرًا
فَأَسَرْتِ .. كُلَّ نُهُرِي
وَبَقِيتِ.. تُرَاقِصِينَ خَيَالِي!
إنّ انبعاثَ “عشتار” وحضورَ المرأةِ في حياة الرّجل، يشبهُ لحظةَ بزوغ الشّمس عندما يحلُّ الظّلام، ويظهرُ العالمُ من وسط العماء، ويواصلُ “دموزي” احتفاءَهُ بـ “عشتار” ص41:
يَا الْمُتَسَلِّلَةُ .. كَشُعَاعٍ وَحْشِيٍّ
إِلَى أَقْفَاصِ سَعْدِي
ضَمِّخِينِي .. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ
دَحْرِجِي النّور
عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!
لا سعادةَ تُوازي بزوغَ الشّمس وانبعاثَ “عشتار” وإطلالةَ المرأة، إنّها ثلاثيّةُ الحياة والحبّ والجَمال، وباكتمالِها يتبدّدُ الظّلامُ والعماء، ويدركُ الوجودُ ذاتَهُ، ويكتسي بالمعنى الجميل. ولا يزالُ “دموزي” محتفيًا ببزوغ شمس “عشتار” وهو يهتف ص113:
أَهْلًا بِشُرُوقِكِ
أَهْلًا بِشُمُوسِكِ الْمُغْمَضَةِ
تَسْبَحُ فِي قَيْلُولَتِي
وَبِشَقَاوَةٍ
تَتَلَهَّى بِغِيِّهَا
تَتَغَاوَى بِرَغْوَةِ عِشْقِي!
هذا التّرحيبُ الحارُّ الّذي يعكسُ الشّوقَ واللّهفة يُشبه تراتيل أخناتون:
كم هو جميلٌ شروقك بالآفاق
عندما تُشرق وتبعثر الظّلام وتضجّ الأرضُ بالضّياء
وما يبتغيه “دموزي” هو أعمقُ من مُجرّد عودة “عشتار”، فهو متلهّف للالتحام بها، كما في النّصوص ص106:
أَيَا مَنْفَايَ الْــ
يَتَوَارَى .. خَلْفَ حَنِينِي الْغَافِي!
دَعِينِي أَلْتَحِفُ .. بِرَوَافِدِ أَسْرَارِكِ
لأَزْدَانَ بِحَمَائِمِ نَقَاوَتِكِ!
يَا مَنْ غَدَوْتِ .. خَطِيئَتِي الْمُقدّسة
هَا أَعْيُنُ رُوحِكِ
تَشْتَعِلُ أَجْرَامًا سَمَاوِيَّةً
فِي أَمْوَاهِ عَيْنِي!
دَعِينِي أَتَعَفَّرُ .. بِنُورِكِ الْأَبْهَى
وَبِكِ.. أَتَوَرَّطُ !
وكما تستقبلُ الطّبيعةُ الشّمسَ مُستيقظةً على غابتِها للاستلقاء في أشعّتِها في ساعات شروقها الأولى، كذلك هي حاجة “دموزي” الرّجل للأنثى، للاستلقاء بأحضانها والالتصاق بها، ثمّ تأتي لحظة الالتحام بين “دموزي” و”عشتار” ص37:
أَيَا قَزَحِيَّةَ الْهَوَى
وَمَا انْفَكَّتْ أَنْفُاسُكِ النّورانِيَّةُ
تُرِيقِينَهَا عُذُوبَةً
مِنْ هَيْكَلِكِ الْمُقَزَّحِ / عَلَى أَوَانِي ضَوْئِي
فَيَتوهّج عِطْرُ اللَّيْلِ
نَتَلَأْلَأُ / وَنَرْتَشِفُ مِنَ الْحُبِّ.. جُنُونَهُ
وَلَا نَنْطَفِي
بَعْدَ اسْتِعَادَةِ الذَّائِقَة!
هذا الاستقبالُ المَهيبُ لعودة “عشتار” والالتحام بها، يُشبهُ شروقَ الشّمس بدفئِها ونورها الّذي تسكبُهُ من قُرصِها، فينفض الظّلام ويُدركُ الوجودُ ذاتَهُ ومعناه، وتنتعشُ الطّبيعة والحياة، ولا يكفُّ “دموزي” عن انكفائِهِ بهذه اللّحظات ص54:
بِأَعْمَاقِي
نَبْتَةُ طُفُولَةٍ .. تَرْهَبُ أَضْوَاءَكِ
حِينَ .. تُطْرِبِينَ احْتِرَاقَاتِ خِلْجَانِي
وَبِدَبِيبِ حَرْفِكِ .. تُؤَجِّجِينَ اشْتِعَالَاتِ خَلَجَاتِي !
فَهَلْ أَنْفَرُ مِنْ ظِبَاءٍ .. تَخْشَى ظِلَّهَا؟
و تقول ص95:
هَا انْسَابَ لُعَابُ نُورِكِ .. في مَضَائِقِ كِبْريَائِي
يُفَتِّقُنِي.. وَيُجَرْجِرُنِي.. إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!
وتواصلُ ص101:
لِإِشْعَاعِكِ .. سِمَةُ النَّفَاذِ مِنْ تَحْتِ الْمِكْيَالِ
كَدَفْقَةِ ضَوْءٍ
تَسْتَرْسِلِينَ مِنْ خَلْفِ أَسْوَارِي!
إنّ هذه النّشوةَ الّتي تبعثُها الشّمسُ والطّبيعة، سينجُمُ عنها الخصبُ والحياة والانتعاش، مثل النّشوة الحسّيّةِ عندَ التقاء الذّكورة في الأنوثة، وبهذا تكتملُ الحياةُ ويصبح لها ممّا يُعبّر “دموزي” عن سعادته بهذا النّصّر العظيم ص57:
أَبَدًا.. لَنْ أَهْمِزَ نَقَاءَكِ
فَلَا تَغِيبِي أَيَّتُهَا الْحُضُورُ!
ويكادُ يكونُ هذا النّصُّ المُكثّفُ حجرَ الزّاوية في الدّيوان، لأنّ الحضورَ هو حضورُ الأنوثةِ الكامنةِ في الطّبيعةِ والوجود، وبغيابها يفقدُ الوجودُ معناه، وعندها لن يكونَ سوى العدم.
**رابعًا:
خصب الطّبيعة – الأنثى:-
من الواضح أنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تمثّلت أساطيرَ الخصب والخليقة الشّرقيّة، فانعكستْ عصارةُ هذه الأساطيرِ في نصوصِها الشّعريّة، فقد حملت هذه النّصوصُ بينَ طيّاتها عددًا من المفردات الدّالّةِ على عمليّة الخصب في الطّبيعة المستقاة من الأساطير القديمة، بحيث لا تتمُّ هذه العمليّةُ واستمرارُ جمرة انبعاثِها، إلّا بعدَ التقاء “دموزي” بـ “عشتار”، فتقول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان على لسان “دموزي” ص23:
لَيْسَ تَوَحُّدُنَا يَكْتَمِلُ
إِلَّا فِي وَهَجِ الْجُنُونِ!
وجُنُونِي .. لَيسَ يَشْحَذُهُ
إِلَّا دَبِيبُ نَبَرَاتِكِ النَّقِيَّةِ!
دَعِينَا نَأْتِيهِ
مِنْ حَيْثُ تَكُونُ لَذَائِذُهُ
فِي انْتِظَارِنَا
لا يكتملُ المعنى ومُبرّرُ وجودِهِ إلّا بالالتحام العشقيّ، الّذي مِن شأنِهِ أن يجعلَ العالمَ يزدهرُ مِن بعدِ الجفاف. ثمّ تواصلُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان على لسان “دموزي” المنبهر بجَمال الطّبيعة، فبعدَ عودةِ روح “عشتار” تنبعثُ في أوصالِها، وهو يُشبهُ انبهارَ الرّجل بجَمال المرأة، وبحضورها العاطفيّ والنّفسي في حياته، فيهتف قائلًا ص 70:
قَسَمًا بِجَمَالِكِ
لَوْ وَقَعَتْ عَيْنِي
عَلَى سُفُوحِ ظِلِّكِ
لِتَفَجَّرَت أنهاري .. بِسَطْعِكِ
ولَذُبْتَ حَيَاءً!
و تواصلُ ص 93:
أَيَا غَزَالةَ النَّدَى
ها ظَمَئِي .. لَمَّا يَزَلْ يَسْتَعِرُ بفُيُوضِكِ النّورانِيَّة!
أَنَا مَنِ احْدَوْدَبَ لَهِيبُ أَدْغَالِي .. مُذْ فَطَمَتْهَا نِيرَانُكَ
مَا تُبْتُ عَنْ ظَمَئِكِ الْمُدَّخَرِ!
سطوعُ الشّمس وفيوضُ أنوارها مِن شأنِهِ أن يبعثَ الحياة في الطّبيعة، ويُفجّرَ أنهارها العذبة لتروي ظمأَها، فتنتعشُ وتزدانُ الغاباتُ والأدغال، وفي نصٍّ آخرَ تُريد الشّاعرة آمال عوّاد رضوان التّأكيدَ على العلاقة الجدليّةِ بين الشّمس وازدهار الطّبيعة ص104:
*رُحْمَاكِ*
بِأَبْجَدِيَّةِ عِشْقِكِ الْحَيِّ
أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!
أَلْبِسِينِي أَدْغَالَ سَمَاوَاتِكِ
لِئَلَّا تَخُونَنِي خُطَايْ.. وَتُجَرْجِرَنِي .. إِلَى مَمَالِكِ الْهَلَاكِ!
أبجديّةُ العشق الحيّ تنطوي على بداهة الأنوثة في الطّبيعة، بما فيها الشّمس الّتي تكون سببَ الحياة الّتي تنمو وتتواصلُ في ضوء الشّمس، مِن بعدِ اليباب والمَحْلِ، فهذا النّصُّ أشبهُ بالتّرتيلةِ المرفوعة للشّمس والأنوثة الكامنة من خلفها، كي تُواصلَ أداءً مهتمًّا، لئلّا ينتشرَ الجفافُ في الطّبيعة، وتبدو الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في النّصوص التّالية متمثّلة تمامًا لأساطير الخصب حين تقول على لسان “دموزي” ص120:
أَيَا جَبَلِي الْمُعَلَّقُ .. فِي فَضَاءِ وَحْشَتِي
هَدْهِدِي أَهْدَابَ سُحُبِي .. بِدَمْعَةِ شَمْسِكِ!
لا تُجَدِّدِي .. سُيُولَ ضَوْئِكِ
فِي حُقُولِ غِيَابِكِ!
عَرِّفِينِي السَّبِيلَ .. إلى خَافِقَيْكِ .. وَاصْغِي
إِلَى تَضَرُّعَاتِ شَيْخُوخَةِ الْوَادِي!
وتواصل ص 21:
أَوْعِزِي .. لِغَيْمِ جِنِّي وَإِنْسِي
لتَتَسَرَّبَ فُصُولُ الْبَنَفَسْجِ
وَتَتَرَسَّبُ بِرُوحِكِ الْعَشْتَار
فَلَا يَشْتَعِلُ الْعَوْسَجُ .. بِتَــلَـعْــثُــمِــكِ!
السُّحُب، الغيوم، الشّمس، السّهول، الحقول، الفصول، البنفسج، كلّها مُفرداتٌ خاصّةٌ بالطّبيعة، فيما روح الـ “عشتار” ترمز إلى روح الأنوثة، هي جذوةُ الحياة في الطّبيعة، وفي النّصّ التّالي تصفُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان سرَّ العلاقة الّتي تجمعُ بين الأنوثة والذّكورة في الطّبيعة وعالم الإنسان ص21:
حَسْبِي
أُدَمْــــــوِزُكِ .. وتَـــتَـــعَـــشْـــتَـــرِيـــن
أُلْقِي عَلَيْكِ .. مَلَاءَاتِي الْخَضْرَاءَ
فَتَسْتَعِيدُ أَعْشَاشِي
تَـرْتِـيـبَ عَـصَـافِـيـرِهَا
وَتَتَسَرْبَلينَ .. أنهار خُصُوبَتِكِ!
يكاد هذا النّصُّ يُشكّلُ مُفتاحًا لبقيّة نصوص الدّيوان، حيثُ يُمثّلُ الحبُّ الكلمةَ المفتاحيّةَ لما تودّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان قولَهُ، فالحبُّ هو المفردةُ الذّهبيّةُ الحاضرةُ الّتي تُشعُّ ببريقِها على باقي المفردات.
(أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) تعني أُحبُكِ فتتألّقين وتخصبين الوجود، فتنتعشُ الطّبيعة بأعشاشِها وعصافيرها وأنهارها، ولا تكتملُ إلّا بالحبّ، وهو الرّوحُ العشتاريّة الكونيّة، وفي النّصوص التّالية تُفصح الشّاعرة آمال عوّاد رضوان عن سبب الالتحام بين الذّكورة والأنوثة الكونيّة، ليكتملَ العشقُ ولتتحقّقَ غايةُ الخصب ص12:
تَـسْـجِـنِـيـنَـنِـي .. بِمَفَاتِنِكِ
تَـنْـسِـجِـيـنَـنِـي .. مِنْ لَدُنِ رُوحِكِ
فأَطْفُوَ عَدْوَ ظَبْيٍ .. إلَى مَقَامِ الْهُيَامِ
وأُجِيدُ طُقُوسَ هُطُولِي
عَلَى أَجِيجِكِ الثّائِرِ!
وتواصلُ ص 33:
اِلْمِسِيني
لِتَعْلَمِي .. كَمْ تُثْقِلُني أَثْمَارُكِ
فَرُبَّ لَمْسَةٍ غَنْجَاءَ مِنِكِ
تَأْتِي عَلَيَّ
وَتَجْعَلُ أنهاريَ
عَلَى شِفَاهِ مَصَبَّاتِكِ
تُلَمْلِمُ أَمْوَاهِي
مِنْ نِيرَانِكِ .. الْــ .. تدْلَهِمُّ بِاللَّظَى!
و تقولُ ص51:
أَيَا مَلَاذِيَ.. وَمَلَاذِّي
فِي مَصَبَّاتِكِ .. أَتَجَاسَرُ
وَتَتَرَاقَصُ تَدَاعِيَاتِي
كَأَنَّكِ فِي تَزَاوُجٍ بِي
يُدَاخِلُنِي ضوْؤُكِ
يُخَارِجُنِي ضَوْعُكِ
وَتَجْعَلِينَنِي .. أُفُقًا نَاعِسًا
يَتَأَبْلَسُ .. وأَتَنَرْجَسُ
إِلَى شِغَافِ أَقْصَاهُ
وَأَتَعَمْلَقُ .. مُحِيطًا نَاضِحًا
فِي بَوْحِ مَدَاهُ!
الهطول، المطر، الشّمس، الأثمار، التّزاوج، الأنهار، المصبّات، التّضوُّر.. وإلخ، والنّتيجةُ من هذه العمليّة هي: (يُدَاخِلُنِي ضوْؤُكِ/ يُخَارِجُنِي ضَوْعُكِ)، أي النّشوة الّتي تُعبّرُ عنها الطّبيعة الخصبة، والحلقة المركزيّةُ في هذه العمليّة هي الشّمس، الّتي هي في الواقع روحُ الأنوثةِ الكبرى وعلّةُ الوجودِ في عالمنا. وفي النّصّ التّالي تحاولُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تمثيلَ إحدى عمليّاتِ الطّبيعة الحيّة الّتي تُشكّلُ مُنطلقًا لعمليّة خصب الطّبيعة ص67:
أَيَا سيّدةَ الْمَاءِ
مِنْ تَحْتِ أَجْفَانِي .. تَدُسِّينَ عَيْنَيْكِ
فِي خَرَائِطِ فَرَحِي
تُفَرِّغِينَنِي مِنِّي .. تُوَشِّحِينَ آفَاقِي
فَأَمْتَلِئُ سُحُبًا .. تَتَعَتَّقُ بِنُورِكِ
وَأَتوهّج بِعَيْنَيْكِ .. فِي نَوَافِيرِ خُيَلَائِكِ!
لكِنَّكِ تَأْبَيْنَ
إِلَّا .. وَأَنْ تَخُطِّينِي بِدُخَانِ الْجِرَاحِ
إِلَّا .. وَأَنْ تَسْطُرِينِي
عَلَى جَبِينِ الرِّيَاحِ!
إنّ هذا النّصَّ المُكثّفَ يُلخّصُ إحدى عمليّاتِ الطّبيعةِ الحيّة، ويَروي كيفيّةَ تطوُّر الحياة الّتي تبدأ بالماء، وسيّدةُ الماءِ هي الأنوثةُ الكونيّة، أي روحُ الحياةِ الكامنة في الشّمس الّتي تسقط بأشعّتِها على الماء، فيتبخّرُ ويتكاثفُ على شكل سُحبِ وغيومٍ في الآفاق، فتحملُها الريّاحُ كالدّخان لتُمطرَ وتبعثَ الحياة في الطّبيعة، ولا تزال الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تعزفُ على ذاتِ النّغمة، كما في هذه النّصوص ص79:
هَا النّجوم تَتَلَفَّتُ صَوْبَكِ
وَلَا يُرْهِقُهَا عِطْرُ اللَّيَالِي
تَعْزِفُ تَقَاسِيمَ ضَوْئِكِ
وَالسّماء تُمْطِرُ عِطْرَكِ .. وَأَهْطُلُكِ جِنَانًا
وتتابع ص82:
بِأَوْتَارِ جَنَاحَيْكِ .. أُحَلِّقُ قَوْسَ قُزَحٍ
خَلْفَ غَمَامِكِ .. حَيْثُ تَسْكُنُنِي السّماء
وَفَوْقَ حُدُودِ الْأَجْسَادِ
تَطُوفُ بِي خُيُوطُ أَشْجَانِكِ!
أَنَّى لِغَابِرٍ فِي الزُّهْدِ .. أَنْ تتَعَفَّفَ بُرُوقُهُ
وَنِيرانُكِ الْمُرَاوِغَةُ عَرّافَةٌ
فِي مَواقِدِي تَتَأَنَّقُ وَتَتَجَمَّلُ؟
عَطْفًا بِي.. أَنَا الْمَوْشُومُ بِالْهَذَيَانِ!
خُذِي بِيَدِي.. وَلَا تَبْتُرِيهَا
مَشْغُوفُكِ أَنَا
وسِلَالُ قَلْبِي مُثْقَلَةٌ بِثِمَارِكِ
تَتَرَصَّدُنِي.. يَانِعًا بفَجْرِك!
وتواصل ص101:
أَيَا صَانِعَةَ شِعْرِي
هَـتَـفْـتُـكِ ذَاتَ لَهْفَةٍ .. أَيَا جَنَّةَ فُؤَادِي
اُبْذُرِي حُرُوفَ سَمَائِكِ .. فِي مَسَاكِبِ نُورِي
وَعَلَى ضِفَّتِي الْأخرى
اغْرِسِي سِحْرَكِ.. فِي وَاحَاتِ نَقَائِي!
حين نتأمّلُ هذه النّصوصَ، نجدُها تنطقُ بلغة الطّبيعة: النّجوم، السّماء، الشّمس، تقلّب اللّيل، تعاقب الفصول، الضّوء، المطر، الهطول، قوس قزح، الغيوم، الفجر اليانع، البذار، الضّفاف، مَساكب النّور، الواحات.. وإلخ، وكلّها مفرداتٌ من الطّبيعة المنطوية على عمليّة الخصب، وقد التمست الشّاعرة آمال عوّاد رضوان العودةَ بنا إلى الطّبيعة وإلى أبجديّةِ الحياة، إلى النّقاء الطّبيعيّ والعفويّة وبساطة العيش، وكأنّهُ هروبٌ مِن الحياة الاجتماعيّة المُلوّثة.
**خامسًا:
**شمس المرأة: –
لقد أعادتنا الشّاعرة آمال عوّاد رضوان إلى الطّبيعة ومفرداتها، وهي تبحثُ عن مفتاحٍ لحلّ الإشكاليّاتِ الإنسانيّة، في المجتمع البشريّ الملوّثِ بالحروب والاستغلال والقهر والقتل، وفي هذه النّصوص حاولتْ إعادةَ الاعتبار للأنثى، في ضوءٍ ما تتعرّضُ له المرأةُ منذ أن بدأت الحضارة، وتُشكّلُ المجتمعَ الإنسانيّ الّذي انفصلَ عن الطّبيعة، وأنتجَ هذا المجتمعُ قوانينَهُ وأعرافَهُ المتعارضةَ مع الطّبيعة، حيثُ مثّلتْ بدايةَ الحضارة الإنسانيّة، ومثّلت القطع مع الطّبيعة الّتي ترى فيها الشّاعرة آمال عوّاد رضوان انقلابًا على الطّبيعة وقوانينها، حين كانت الأنوثة هي السّائدة، وكما لاحظنا في نصوصِها، فإنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تحنّ إلى ذلك الزّمن البعيد، وترى فيه الزّمن المثاليّ للحياة الإنسانيّة.
لقد جاءَ استخدامُها لرمزيّةِ الشّمس تعبيرًا عن روح الأنوثة، وذلك لأنّ الشّمسَ هي الحقيقةُ السّاطعةُ الّتي لا يمكنُ حجبها، أو الاختفاء منها خلف بنان، والنّصوصُ التّالية الّتي تنقلُنا فيها الشّاعرة آمال عوّاد رضوان إلى العلاقةِ بين الرّجل والمرأة في المجتمع الحديث، لا تزالُ تَستخدمُ رمزيّة الشّمس، للتّأكيد على حقائقِ الطّبيعة السّاطعة، ولنتأمّلْ هذه النّصوصَ ص49:
لَعمْرِي
أَنْتِ قَارَّةُ شِعْرِي .. بَلْ قَارَّةُ صَخَبي
هَالَتُهَا قَارُورَةُ شِعْرٍ
نَهَبَتْنِي هَدْأَةَ الْوَرِيدِ!
كَمِ ارْتَشَفَتْ أَنَامِلِي
مِنْ قَارُورَتِكِ الْمُشْرَئِبَّةِ
لِأَكْتَشِفَ حَوَافَّ قَارَّتِكِ!
لكِنَّكِ .. ارْتَشَفْتِنِي وَرَسْمِي
وَمَا أَبْقَيْتِ .. عَلَى اسْمِي
إِلَّا أَجْنِحَةً.. تُؤَرْجِحُهَا خَفَقَاتُ شَمْسِكِ!
*(لِأَكْتَشِفَ حَوَافَّ قَارَّتِكِ!): إنّ تشبيهَ المرأة بالشّمس هو تأكيدٌ على سطوع الحقيقة، كما ينطوي هذا النّصُّ على الانتقالِ من المرحلة الغريزيّةِ الطّبيعيّة، إلى مرحلةِ الإدراك؛ أي إدراك الوجود والوعي الجنونيّ، كما أنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان استخدمت الحواسَّ الخمسَ في النّصّ السّابق، وفي النّصوص التّالية للتّأكيد على المرحلةِ الغريزةِ الطّبيعة من جانب، وعلى العلاقة الجنسيّة من جانب. تقول ص52:
أَيَا مُهْرَةَ بَوْحِي
حَلِّقِينِي إشراقةً .. تَجْثُو فِي السَّحَرِ
لِأَتَشَدَّقَ بِفِيكِ.. برَغْوَةِ مُرَاوَغَتِكِ
ولِتَشْرَئِبَّ شِفَاهِي اللَّهْبَى
ظَمَأً
لِعَطَشِ أَلْسِنَةِ لَهَبِكِ
فَمَا أَرْوَعَكِ .. أَيَا مَاهِرَةَ الْبَوْحِ
أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً .. وَلَا أَرْتَوِي!
وتتابع ص 53:
مَا كَانَ جَمَالُكِ.. إِلَى اضْمِحْلالِي
وَهَاءَنَذَا يَجْزَعُنِي دَهْرِي
أَشْتَمُّ حَرَائِقَ أَنْفَاسِكِ
كَمْ زغرَدَتْ وَكَمْ هَلَّلَتْ .. فِي صَدْرِ اللَّيَالِي!
الحواسُّ الخمسُ الّتي بدونها لا يُدركُ الكائنُ الحيُّ ما يدورُ حولَه، حيث تدَرّجَ الإنسانُ بوعيهِ وإدراكِهِ، مُتجاوزًا المرحلةَ الغريزيّة، بحيث جعلت الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان المرأةَ هي علّةُ هذا الإدراكِ وموضوعِها، ولولاها لما صارَ بوسع الإنسان أن يتطوّر ويُدركَ معنى وجودِهِ الإنسانيّ والاجتماعيّ والرّوحيّ. وفي هذه النّصوص التّاليةِ تحاول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان أن تُكرّسَ التّماثُلَ بين الشّمس والمرأة في حقيقتِها الوجوديّة ص53:
أَيَا امْرَأَةً شَمْعِيَّةً
تُشِعُّ يَنَابِيعَ قَلْبِي .. بِشُهُبِ نُورِهَا الْعَابِثِ
وقُبَلًا تطْبَعُني.. عَلَى أَجْبِنَةِ أَقْمَارِي
و تواصل ص 59:
بِوَجْهِكِ الشّمسيّ .. تُطِلِّينَ وَضَّاءَةً
وَأَتَوَضَّأُ
بِمَرْهَمِ حَنَانِكِ الْبَهِيِّ
تَدْهَنِينَ.. قُرُوحَ مَوَاجِعِي!
حلْكَةَ يَأْسِي الدّامس .. تُضِيئِينَ
بِمَنَابِعِ آمَالِ يَمَامِكِ!
ونختتمُ بهذا النّصّ الّذي يختصرُ الرّسالةَ في نصوص الشّاعرة آمال عوّاد رضوان ص81:
خَلْفَ هَفِيفِ حُلُمِي
أَمْتَدُّ وَأَتَمَدَّدُ .. حَدَّ الْعَتَبِ
أَنَا كَفِيفُكِ .. وَقَلْبُكِ .. حُنْجُرَةُ خَيَالِي
وَبِمِلْءِ ثَغْرِي الْمُشَرَّعِ لِلدَّهْشَةِ
أَتَسَلَّلُ إِلَى ذَهَبِ عَيْنَيْكِ .. لِأَرَانِي!
وَأَبْحَثُ عَنْ قَلْبِي الْهَائِمِ.. فِي شَقَاءِ كَوْنِكِ
أُفَتِّشُ
عَنْ كَمالِ قُبْلَتِكِ ..تَشْطُرُ شِفَاهِيَ شَوْقًا
لكِنَّكِ .. تَسْتأثّرينَ بِشَامَةِ اشْتِعَالَاتِي!
وَتَرْتَفِعُ بِيَ هِضَابُكِ
وَكَمَانَا.. نَعْزِفُنَا كَمَانَا
وبحسب هذا النّصّ لن يكونَ بوسع الرّجل أن يُدركَ ذاتَهُ ومعناهُ وحقيقتَهُ الأبديّة، إلّا بعدَ مُعاشرةِ المرأة، تلك الشّبيهةُ بالشّمس، وفي أعماقها يكمنُ سرُّ المعرفةِ الوجوديّةِ الحضاريّةِ والثّقافيّة، كما أدركَها أنكيدو بعد علاقتِهِ مع المرأة في أسطورة جلجامش.
إنّ ديوانَ (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) للشّاعرة آمال عوّاد رضوان هو نصٌّ أدبيٌّ رائع، أعادَتنا الشاعرة من خلال نصوصه الى الطّبيعة وعبقها والى الأسطورة وسحرها، فهذه النّصوصُ المُكثفةُ تحملُ في طيّاتِها روحَ الطّبيعةِ الحيَة وأسرارَها البكر، كما تحملُ احتجاجًا صامتًا على ما يجري في حياةِ المجتمع الإنسانيّ الحديث، فاستخدمت الأسطورةَ للدّلالةِ على الحقائقِ والتّفكير بالبديهيّات الّتي جرى طمْسُها في التّاريخ الإنسانيّ، وإن كانَ انحيازُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان للأنوثة والمرأة لا يُعبّرُ عن انحيازٍ جنسيٍّ أو أيديولوجيّ، إنّما انحيازٌ للحقيقةِ الّتي تُشبهُ الشّمسَ بألَقِها وجَمال حضورِها.
لقد عبّرتْ هذه النّصوصُ عن صفاءِ روح الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وعن إحساسِها المرهَفِ العميق بالوجود وبالتّاريخ، وهو ما يعكسُ أيضًا ثقافتَها الواسعةَ المُنسجمةَ مع ذاتِها، بوصفِها امرأة وشاعرة في ذات الوقت، وقد أثبتتْ آمال بهذا الدّيوان أنّها شاعرةٌ خضراءُ لا تعرفُ الجفاف، فكانت نصوصُها خضراءَ يانعةً تعكسُ شخصيّتها وفصولًا حيّةً تحملُ حبَّها العشتاريّ النّابض، فكانت الشّمسُ والأمطارُ والأنهارُ والأدغالُ والغاباتُ والطّيورُ كلُّها تعزفُ أنشودةَ الحياة، الّتي تُمثّلها “عشتار” السّاطعةُ كالشّمس إذا جرى عشقها، وبلغة الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، إذا جرى دموزتها لكي تتعشتر، فإنّها ستمنحُ الحُبَّ والدّفءَ والخيرَ والعطاءَ والأمان، وبهذا تكون آمال عوّاد رضوان قد زرعت بذورًا جديدةً في أرض الشّعر العربيّ، ولم تلبثْ أن تنمو وتتفتّحَ أزهارُها وتعبق بأريجها تحت شمس “عشتار” الخالدة.
انتهى