غمُـــوضٌ أمْ تعمِيَـــةٌ (مداخلة حول شعريّة سليم بركات)

أحمد عزيز الحسين

 

     إذا رغبنا بتحليل العنوان الذي اعتمده خالد محمد جميل لبحثه عن شعريّة سليم بركات، وحاولنا استنطاقه، واستكناه الدلالة الثاوية في نسيجه نجد أن العنوان يحكم مسبقاً على التجربة الشعرية لـ(بركات) بأنها وقعت في شرك”التّعمية“، ولم تفلح في الوصول إلى القارئ، وظلت بنيتها المجازية وأنساقها اللغوية محكومة بالاستغلاق أمامه؛ ولذا لم يفلح في الولوج إليها، أو القبض على دلالتها إلا نادراً.
      والناقد خالد جميل يجعل بحثه برهاناً للحكم الذي تضمنه عنوانه، ويستخدم مقبوساتٍ مقتطعة بقصديّة من نصوص بركات للتأكيد على صحة حكمه، ويرى، بعد تحليله لها، أنّها عصيّة على الفهم، وأنّ القارئ لم يُحسِن فكَّ مغاليقها، والتّعرُّف إلى مفاتيحها الدّلاليّة؛ ولذلك بقيت نصوصاً مُستَغلَقةً لا يُحسِن القارئ فكَّ شفراتها، أو القبض على دلالتها، فبقي واقفاً على العتبة، ولم يُحسِن الولوجَ إلى الحيّز الداخليّ لهذه النّصوص. وهو لايرى أنّ الاستغلاق سمة لبعض قصائد بركات، أو لأجزاء منها وحسب، بل يرى أنّ ذلك يطالُ تجربته كلَّها، ولا يقتصر على قصيدة بعينها، أو على عبارة محدَّدة، أو على لفظة تحتمل عدّة أشياء في وقت واحد، كما أنه لا ينهج، في فهمه للغموض، نهجاً موازِياً لنهج وليم إمبسون في كتابه (سبعة أنماط من الغموض)، من حيث أنّ الغموض، كما يراه إمبسون، صفة خلّاقة ملازمة للخطاب الشعري، ودليل على تمكُّن الشاعر من أدواته، بل يرى أن شعر بركات ” مُعمّى” ومغلق،  وهو يقطع بذلك علاقته بالمتلقّي، ويرى أن هذا الخطاب تطور بمعزل عن علاقته به، وكأنّ هذا الشعر موجَّه لقارئ معلق في السماء لا لقارئ مُتمَوْضِع على الأرض.

 
    لقد أشار إمبسون إلى أنّ الغموض متاتٍّ من التشكيل الفنيّ الذي صيغ به النصُّ، وأرجعه إلى آلية البناء التي اعتمدها الشاعر لا إلى المرجع الذي يوهم به النص نفسه، وفي رأيه أن القصيدة ليست مجرد شظية مقتطعة من الحياة وحسب، بل هي شظية اقتطعها من الحياة ذهن محدد، وحكم عليها؛ وهي لذلك مفهوم لشيء، وليست ظاهرة. وفي رأيه أنّ الغموض صفة متميزة للشعر العظيم.
    و” التّعمية“، في الواقع، هي معيار التّقييم الضّمنيّ المُسبَق الذي اتّكأ عليه  خالد جميل في قراءته لتجربة بركات الشّعريّة، والحكم عليها، ولأنها قراءة تنطلق من موقف مسبق كان من السهل على صاحبها أن يختارالمقبوسات الشعرية التي تؤكِّد حكمه القبْليّ، ويقتطعها من سياقاتها، كما قال الدكتور خالد حسين، ولذا سهُل عليه، في الوقت نفسه، أن يخلص إلى أحكامه النّقديّة، ويؤكد صحّة ما ذهب إليه في عنوان بحثه.
والمشكلة التي تظهر في تقييم النّاقد جميل لـ(بركات) أنّ صاحبه ينطلق في نقده من معيار محدّد، ومن نموذج ثابت للكتابة الشعرية، وهو يواجه نموذجبركات الشّعريّ، متّكئاً على محدِّدات المعيار القبْليّ الموجود في ذهنه، وحين يُعايِن كتابة بركات، ولايجدها متفقةً مع معياره يحكم عليها بالاستغلاق والتّعمية؛ لأنّ النموذج الموجود في ذهنه” مثاليّ الإتقان“، بحسب تعبيرمحمد لطفي اليوسفي، وحين يفارق بركات هذا النموذج، وما أفضى تبنِّيه له من معيار قبْليّ، وينزاح عنه؛ يتّكئ على آليّة مختلفة في مقاربته،  ويحكم عليه بالاستغلاق، ويطرده من مملكة الشعر الذي يرتضيه لنفسه، من دون أن يبحث عن آليّة جديدة تتيح له استكناه الخصائص النّوعية التي استوت في هذا النموذج الإبداعيّ المُغايِر لما ألفه، وتعوّد عليه.
   
   
    وخالد جميل يحتكم في نقده لـ(بركات) إلى نموذج قارّ كان على بركات أن يتقيّد به، ويحاكيه، ويصنع مثله، ليُمسِي “شاعراً” يُجاري الموجود، ويوازيه، ويتقيّد بالخصائص النّوعية التي تتوافر فيه، وفي رأيه أن مجاراة بركاتللشعراء المعاصرين له كان من الممكن أن تتيح له كتابة قصيدة جيدة ترقى إلى مستوى النموذج الذي يحظى بإعجابه.
      إن موقف خالد جميل من شعر بركات يذكِّرنا بمواقف علماء الشعر الذين واجهوا شعر أبي تمام بذائقة تقليدية، واحتكموا في مواجهته إلى معيار قبْليّ، ونموذج شعريّ ثاوٍ في أذهانهم، وحين وجدوا أن ماكتبه ينزاح عن الرّؤية القبْليّة التي كانوا يتّكئون عليها، ويغاير الشكل الذي ألفوه نفضوا أيديهم منه، وحكموا عليه بالموت الدلالي.
     وفي ظني أنه لا يجوز لناقد النظر إلى تجربة ثرية كتجربة بركات بهذا الاستخفاف، والحكم عليها حكماً مسبقاً بهذا التّسرُّع،  بحيث يغدو عمله هو البرهنة على صحة الحكم الذي انطلق منه في قراءته المغلقة؛ ذلك أن تجربةبركات أثرى، في رأيي، من أن تُشطَب بجرّة قلم.
    إن بركات يجترح في شعره جمالية شعرية تناهض السائد، وتعمل على توليد دلالة تندُّ عن التّوصيل، وتختبئ في ثنايا النسيج اللغويّ، وتحتجب خلف الصور، وتحتاج إلى آلية قراءة جديدة تمزق حجب اللغة، وتتمرّد على المعايير الثابتة، وتنتهك الخصائص النوعية المستقرة كي تصل إلى المتلقي الذي يمسي هو الآخر مبدعاً، وقادراً على مغادرة حالة الركون إلى حقل السؤال المتجدِّد الذي لا يتوقف أبداً.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…