في بعض ٍمن كردية صبحي حديدي

  ابراهيم محمود
 
لفت نظري مقال الباحث والمترجم العربي السوري صبحي حديدي عن الكردي السوري سليم بركات ” تحولات سليم بركات ” المنشور أساساً في صحيفة ” القدس العربي ” اللندنية، بتاريخ ” 4-10/ 2020 “، والحديث هنا ليس عن المقال، إنما عنه، في ذكريات جامعة، حيث تعرفت عليه وأنا طالب ثانوية في قامشلو، وهو مدرس لغة انكليزية، ثم كان لقاء تال، وبعد سنوات طوال في باريس، ربيع 2006، في مقهى من شارع La grande armée : الجيش الكبير، والصورة المنشورة، تؤرخ لذلك اليوم، وهو في الوسط، بينما الأستاذ صبحي دقوري من جهة اليسار، وأنا على يمينه، حيث أمضينا معاً عدة ساعات، وكانت رائحة المكان، رائحة عربيته مطعّمة بنظيرتها الكردية تفوح منه، كما استخلصت ذلك من حديثنا الذي كان مزيجاً من ذكريات المكان، وهموم الأمكنة وما هو مشترك بيننا.
حديدي مخلص للمكان، للمكان الأول والذي ولِد فيه، ولأهل المكان الأول، وله وجهة نظر مختلفة عن كثيرين هنا من خلال نوعية تخصصه الجامعي” بكالوريوس لغة انكليزية ” وكان متفوقاً فيها، وترجماته دالة عليه، كما أن لغته في الكتابة وهي بذائقتها الحداثية، وانفتاحه على ثقافات مختلفة، لعبت دورها في تكوين شخصيته الثقافية.
كان لقائي به، بفضل الأستاذ صبحي دقوري المقيم في باريس منذ عقود من الزمن، حيث اصطحبني معه من بروكسل في فجر ربيعيّ الوقت صوب باريس، وحللت ضيفاً عليه لعدة أيام، وهذه فضيلة تسجَّل له .
في ذلك اللقاء الذي امتزجت فيه رائحة القهوة ونكهتها برائحة المكان المعتق ونكهته، أبصرت فيه حزمة من المشاهد التي أعادتنا معاً إلى شوارع ” قامشلوكي ” اسم التصغير والتحبب للمدينة المتعددة الألسن واقعاً، رغم الحضور الكردي المتميز فيها، وكان هدوؤه يُترجَم جانباً من ثقافته الانكليزية ودماثة خلقه ودقته في اختيار الكلمات، وتصويره للحالات التي ارتبطت بواقع مشترك، إلى جانب سلاسة الصوت وانسيابيته، وما فيها من حضور لطريقة تهجئة اللغة الفرنسية التي يتقنها طبعاً، فهو فرنسي الإقامة أيضاً، ومنذ عقود من الزمن، ومن باريس هذه يحضر ندوات ومؤتمرات ثقافية عربية وغيرها.
في نبرة صوته وهو يشير إلى وضع الكرد عموماً، وفي فرنسا خصوصاً، وباريس بشكل أخص، كان ثمة شكوى من انقساماتهم، ونقد لطريقة تعاملهم مع بعضهم بعضاً” ربما يعتبر البعض أو أكثر من كردنا،جرّاء حساسية قائمة، أن في ذلك وصاية ومعلَمية “، نقد معتبَر، لم أخطئه عليه، رغم تـألمي لذلك. ولا أشك حتى الآن، أن جانباً مهماً، وكبيراً من حساسية كهذه لدى من أشرت إليهم، كردياً، سببها، هذا الشعور الداخلي بالسلب، وعدم الاستعداد على تقبّل النقد، أنى كان مصدره، وخلفية قائله، ومازال فاعلاً فعله.
حديدي، الذي أعلمني أنه قطع مسافة ساعتين من الزمن لنلتقي، لم يقدِم ليسمعني معلومة ” وجاهية ” كهذه، ولا أظنني أعاني من حس المظلومية المتفاقم لدى نسبة كبيرة لدى كردنا: السياسيين منهم، وبعدهم من هم في نطاق مثقفيهم، إذ إن النطق بحقيقة كهذه، لا بد أن ينبّه ويحفّز على كيفية تجاوز أعراض ” مرَضية ” نفسية، قبل كل شيء كهذه.
ما أريد التركيز عليه، وإزاء مقاله عن سليم بركات، ومغزى رواياته الأخيرة ” بعد 2015 ” والمشهود لها بالطول، أو ضخامة الحجم، وهي حقيقة ملموسة، هو تلك العلاقة الودية القوية بينه وبين بركات،ـ فالاثنان توأما ولادة سنة واحدة ” 1951 “،وربما ما كتبه بركات في سيرتيه قبل أربعة عقود من الزمن، وشاعريات المكان، أثار ولا زال يثير في حديدي تلك الذاكرة المشتركة وتقاطعاتها، وهي علاقة استمرت خارجاً، حيث كان يكتب في  مجلة ” الكرمل ” كثيراً، وهي، وكما هو معروف المجلة الفلسطينية المرموقة، وكان رئيس تحريرها الشاعر الراحل محمود درويش، وبركات سكرتير رئيس التحرير حيث ذاع صيته كثيراً من خلالها، ولا بد أن موقعاً كهذاً، ونشر نصوص أدبية: شعرية، روائية، ومقالات له فيها، وحتى عن طريقها كدار نشر، كان مؤثّراً في تنامي هذه العلاقة، حيث إن نصوصاً عديدة لبركات تركزت على ما هو فلسطيني، احتفي بها، وهذا من شأنها أن يحفّز في نفوس العديد من الكتاب العرب، ومنهم حديدي  قوى نفسية مكانية واجتماعية وغيرها.
فكان نشر العديد من المقالات لحديدي عن بركات، عن شعره، ونثره في منابر ثقافية عربية مختلفة، تعبيراً عن هذا الاهتمام المشترك والمتنوع، ولكل منهما أسلوبه في تعاطي الأحداث وصيَغ التعبير.
يكتب حديدي عن بركات، انطلاقاً مقدَّراً من كونه يعرفه عن قرب، مقارنة بمن يعرفونه ككاتب، وعن بعد عموماً، فيمتزج في نصه الحس المكاني- الزماني، والاجتماعي المشترك، والحس البحثي والقرائي النقدي فيه، ليكون، بصورة ما، وربما من حيث لا يحتسب، أقرب إلى المرجع الأكثر صوابَ أثر حوله.
سوى أن الذي ينبغي التذكير به، هو أن حديدي، وكما هي قراءتي له، يتخذ من بركات حالة أدبية وثقافية كردية، وهي تتكلم العربية كتابة، ومنها يكون عبوره إلى الداخل كردياً، الكردي الذي يراه حديدي فيه طبعاً.
الكردي الذي يبدع في الكتابة بالعربية إنشاءاً بلاغياً ووصفاً شعرياً مؤثراً،لم يستطع الكثيرون من كتابها الكتابة في مثل براعته، ولعل هذا التوصيف الإطرائي بالمقابل، يثير في كرده الآخرين، ممن يكتبون بالعربية، أن يكونوا مثله، ليكون لهم حضور آخر، أوسع، وأكثر أغنى، ممن يكتبون بالكردية، وضمن دائرة ضيقة .
ثمة بالتأكيد، مسافة فاصلة، ومرئية، لا يتعداها حديدي، في علاقته ببركات وطبيعة كتاباته، حيث الاقتصار على ما هو أدبي يشكّل السمة الغالبة، وتبرز العلامة الكردية دونها حضوراً، وقد يكون في ذلك ترجمان ترسيم حدود في العلاقة بينه وبين بركات، أو هو نفسه من سمّاها، أو لأن طبيعة كتابات بركات أحياناً تسمح بمثل ذلك، أو: لأن ما يعرَف به الكرد من انقسامات، له بصمة معينة في مثل هذه التوجهات، سوى أن الأهم هنا، هو أن حديدي، ولمن يعرفه، في كتابته هذه، ولمن يريد التفكير خارج الحساسية الناتئة، يقدّم درساً في العلاقة الحوارية مع آخره الكردي، مثلما أن بركات يمثّلها في العديد من رواياته وقصائده، والعلاقة مع الآخر حوار يغني الذات في العمق.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…