كتابة على الكتابة حول مقال «السمات المشتركة بين الكلوت والكمامة»

فراس حج محمد
أبلغ أصدقائي بالمقال، صديقي الذي هاتفته ليلا بعد نشر المقال في موقعي الشخصي يضحك من كل قلبه على العنوان، من المؤكد أن قرأ المقال، لكنه لم يخبرني رأيه، من عادته أن يؤجل رأيه إلى حين. في الليلة ذاتها أهاتف صديقا آخر، لم يعجبه العنوان، وأبدى تذمره، وربط بين المقال وكتاب “نسوة في المدينة”، فقد قرأه من الغلاف إلى الغلاف، ويقول لولا أنني أعرفك لقلت إن ما في الكتاب خيال في خيال. فأكدت له أنني لا أكتب إلا تجاربي وما حدث معي، ولا أريد أن تستعبدني أسراري. وينقل رأي صديق له بالكتاب بعد أن قرأ معظمه، يقول: هكذا الكتب يا إما فلا. إنه أنفع من (الفياجرا). هذه القراءة سطحيّة بالتأكيد، والكتاب يقول أبعد من ذلك بكثير.
صديق ثالث، يرسل إليّ رسالة صباحية، يمتدح فيها المقال والجرأة التي فيه، ويذكرني بالتحول الذي أصاب الثقافة العربية، هذه الثقافة التي صارت ضعيفة وغير متقبلة الخوض في مثل هذه الموضوعات، فيذكر لي أسماء كتب تراثية تناولت موضوع الجنس بأريحية كبيرة. من المهم الإشارة إلى أن مجلة ميريت الثقافية المصرية في عددها الأخير (ديسمبر 2020) تخصص ملفاً لبحث الكتابة الأيروسية، اطلعت على ما كتب فيه، وليس فيه ما هو جديد، فالأسئلة هي هي، والتساؤلات معلقة دون أن يجد أحد الإجابة الشافية. وكنت قد ناقشت هذا الموضوع مرارا في مقالاتي وكتبي، وعقدت له فصلا كاملا في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية” تحت عنوان: “الشعر بين الأيروتيكيّة والأيروسية”.
على أي حال، أبعث المقال للنشر، يعتذر أحد مسؤولي الصحف عن عدم النشر على الرغم من أن المقال- كما قال- جيد وذو أفكار مهمة، لكن القارئ العربي لا يستسيغ بعض ما جاء فيه. أشكره وأتقبل رأيه ووجهة نظره، فيعزز ذلك من توقعي ألا ينتشر المقال على نطاق واسع لهذا السبب، فما زال القارئ يقود وعي المثقفين ويحجمهم، ويُحدّ من تطلعاتهم، بعد أن تنازل المثقفون عن مهمتهم في تنوير القارئ وفتح مسارب عقله لينطلق دون خوف، ويقرأ ويناقش كل الموضوعات، مهما كان درجة حساسيتها، وأيا كان أسلوبها. لكن على ما يبدو أن الثقافة ما زالت واطئة السقف إلى حد احترام أفق القارئ الضيق. هنا عليّ أن أشكر المواقع الإلكترونية التي نشرت المقال وكان سقف حريتها عاليا ومرتفعاً.
أصدقائي لم يتفاعلوا مع المقال عندما نشرته على الفيسبوك؛ لا بالإعجاب ولا بغيره، وأهملوه تماما، من المؤكد أنهم قرأوا المقال، لكنّ شيئا ما يمنعهم من التعليق والإعجاب. إنهم ربما سيكونون شركاء إثم لو دعموا المقال أو أعجبوا به. أقدّر ما هم فيه ولا أمتعض. فالأمر متوقع كذلك، وليست المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا مع هذه الموضوعات، والموضوعات السياسية التي تحاول أن “تدغدغ” الحكومة أو أصحاب القرار في وزارة ما أو جهة ذات سلطة ما لها علاقة بالحكومة، فالأصدقاء والصديقات ينكمشون ويختفون ويصمتون على هامش مثل هذه الموضوعات، على الرغم من أنهم مثقفون وناضجون وكثير منهم يؤيدني ويشجعني على ما أنا فيه وعليه من طريقة للكتابة، لا فرق بين أصدقاء الفيسبوك وتويتر، فكلهم ذو عقلية واحدة، ويفكّرون بالطريقة ذاتها، على الرغم من أنهم تجاوز عددهم الخمسة عشر ألف متابع على جميع تلك الصفحات التي نشرت فيها المقال. لا تدري أين يذهبون ويتسربون.
بعض الأصدقاء يتفاعل مع الموضوع على الخاص (في دردشة الماسنجر)، كاتب صديق ومقرب يعلق على الموضوع بإسهاب فيقول: 
“صباحك “كيلوت” وكمامة..
لا أعرف حجم الشتائم التي ستنهال عليك أو تنهار بعد هذا المقال، ولن أستطيع حمايتك من الحجارة التي سيلقونها عليك فتحملها وحدك يا صديقي، فبعد أن تصحر الرأس مني لا قِبَل لي بتحمل صرارة فكيف بحجارة؟
طبعا (كيلوت) كلمة فرنسية، وتعني غطاء المؤخرة في عهد النبلاء. بينما كلمة “كلسون” الفرنسية أيضا تعني الملابس الداخلية، والعرب منذ ما قبل الإسلام والمسلمون عرفوا (السروال) وهو كلمة فارسية. فأصل (الكيلوت) أو (الكلسون) سروال بدأ (يكشّ) وليس بسبب الغسيل طبعا حتى وصل إلى مرحلة الخيط فأصبح غطاء نظرياً ليس أكثر.
والكمامة كانت نقاباً يغطي الوجه، وعادت في زمن الكورونا لتحجب المرأة والرجل. بالمناسبة كنت أستخدم الكمامة في السفر بالحافلات والطائرات لتخفيف التعرض للرشح والعطاس والروائح الكريهة.
مقالك طريف، وكما هي العادة، تصرّ على أن تكون صديقاً مشاكسا بالكلمة والمقال. والمقارنة أثارت إعجابي، علما أنه في بداية عصر الكورونا وفرض الكمامات أتذكر أنني رأيت (فيديو) هزلياً تدخل به ثلاث نساء متجراً للتسوق فيمنعهن الحارس لعدم لبسهن الكمامات، فينزعن ألبستهن الداخلية (الكلاسين)، ويضعنها بدل الكمامات فيدخلن المتجر.
صباحك (كيلوتات) من الساتان و(كلاسين) حريرية”.
أعجبني التعليق جدا، وتناقشنا مطولا في المقال وغيره، وفي كتاب “نسوة في المدينة” الذي قارب صديقي على الانتهاء من قراءته. صديقي يعرفني جيدا، ويعرف أنني أكتب بعريٍ كاملٍ فاضح، لا أحب أن أبقي في ذاكرتي شيئاً سريّا، لذلك لم يفاجئه الكتاب، وما فيه من علاقات وممارسات.
في معرض الحديث يخبرني صديقي أنه بعث المقال لصديقة له، وعندما سألته عن رأيها أخبرني أنها لم تجبه حتى وقت محادثتنا. لم يمض كثير وقت، وإذ به يبعث لي رد صديقته التي أخفى عني اسمها، فكتبت:
“مقال مليء بالمشاكسة كما قلتَ بتعليقك، من باب المداعبة واللعب بالكلمات والاستناد للمصادر لإثبات وجهة نظره وطرحه. 
بس سؤالي للكاتب: 
هل انتهت مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لنلتفت إلى هذا الموضوع؟
والكمامة ستستخدم فترة الكورونا، وستصبح ذكرى مثل ما مر علينا من أوبئة، أما عن (الكلوتات) فهي تعود لمن يرتديها أو ترتديها؛ حرية شخصية مطلقة.  لم يعرض كاتبنا للرجال في مواسم الحج، فهم عراة من تحت لباس الإحرام، لكنهم حتما سيلبسون الكمامات. 
وألوان الكمامات وأنواعها في متناول الأيدي، وكلهم لنفس الغاية، وتعود لذائقة السيدة، ولن تكون الكمامة في يوم من الأيام فرض عين أبدا. هي خيار حتى في زمن الأوبئة. خيال كاتبنا واسع جدا”.
أسعدني ردها جداً، وإنْ نظرتْ إلى الأمر على أنه خيال واسع، مع أنني أرى بعين البصيرة التي لم تخني أن الأمر ليس مؤقتاً هذه المرة، بل ليس طارئاً. إنها الفرصة الذهبية لتغيير العالم، كما كتبتُ في مقال سابق. تغيير منظومة القيم، وتغيير التعاملات الاقتصادية والثقافية والتعليمية، وتأسيس لمرحلة جديدة، سيكون ما بعد “كورونا” ليس كما هو قبلها، ولن يعود العالم إلى الوراء ألبتّة، ولا خطوة واحدة، بل لم يستنفد الفايروس قدرته التغييرية بعد، وما زال في جعبة مهندسي العالم مفاجآت مدهشة، لم تمرّ ببال بشر، ولم تخطر في أكثر خيالاتنا بساطة أو جموحاً، وستتفوق على كل خيال عرفناه أو توصلنا إليه، ورأته هذه الصديقة واسعاً. سيأتي يوم، ويصبح هذا الخيال وغيره واقعاً يفقدنا القدرة على الاندهاش، كما كان كثير من أشياء اليوم خيالا جامحا يوما ما، وبناء عليه، سيصبح هذا الخيال عاديا ومتقبلاً بعد زمن، ربما ليس طويلاً جداً.
أخيرا، أشكر صديقي على ما قام به من لفت نظري بطريقة غير مباشرة لكتابة كلمة (كيلوت) التي كتبتها دون ياء المد الساكنة (كلوت)، وأشكره على المعلومات حول أصل الكلمة ومرادفاتها (الكلسون، والسروال)، والغريب أنه لا أصل عربياً لهذه النوع من الملابس، كأنه طارئ على حياة العرب فأخذوه من الفرس قديما، ومن الفرنسيين في العصر الحاضر، كما أشكره على تلخيصه رحلة (السروال) حتى صار “خيطاً”- غطاء رمزياً، وذكّرني بما كتبه الشاعر اللبناني سليم رشيد الخوري (الشاعر القروي) في وصف ملابس إحدى النساء بعد أن أخذت (تَكِشّ) تدريجياً:
لحدّ الرُّكبتينِ تُشَمّرينا          بربّك أيّ نهرٍ تعبُرينا
  
كأنّ الثوبَ ظلّ في صباحٍ        يزيدُ تَقَلّصاً حيناً فحينا
  
كما أشكره على ذكر أمر (الفيديو)؛ فقد تنبهت لهذا الأمر، بعد أن بعثت المقال للنشر، وكنت قد شاهدته قبلاً عندما راج على الفيسبوك، ما استدعى مني تعديل المقال حالما تذكرت، فجاءت ملاحظة صديقي، وكنت قد عدلت المقال، وقد اطلع على النسخة الأولى المرسلة إليه ليلاً في البريد الإلكتروني. أضفت فقرة بخصوص هذه الحادثة الطريفة الرمزية التي ربما أخذتنا جميعا إلى تفكير وخيال أبعد مما كتبنا أو ما سنكتب في قابل الأيام. فيا لهذا الفيروس اللعين كم منحنا من أفكار خيالية، بل ربما كانت أبعد من الخيال “ميتا- خيال”. هل يوجد شيء أبعد من الخيال؟ ربما.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…