«نِسوةٌ في المدينة» بالأبيض والأسود

صفاء أبو خضرة/ الأردنّ

 

“وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ، قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ”. (يوسف، 30)
هل فعلها الكاتب فراس حج محمد؟ لا بُدّ لهُ من ذلك وهوَ العارف باللغة، فالنسوةُ جمعُ قلّة، لذلك كانت التسمية (النسوة) وليس النساء (جمع كثرة).
ثم سألتُ نفسي بعدَ قراءة العنوان وخطرت ببالي تلك الآية الكريمة، وراودتني مخيلتي الروائية بأنّ نسوة فراس في مدينته مثلُ هؤلاء النسوة اللاتي قطّعنَ أيديهن دلالة على الفتنة والشهوة..
لكنَ نسوة فراس، كانت فتنتهنّ ذلك الفضاء الأزرق، تلك البوابة العمياء التي لا تبصر، واستطعنَ الاختباءَ والتخفّي خلفها.
أما اللغة، والصنعة اللغوية التي تميّزت بها لغة الكتاب، هي ساحة النزال بين عوالم فراس ونسائه، فجعل من (مدينته) تجمّعاً لمدنٍ كثيرةٍ وبعيدةٍ في واحدة.
كما أنّه كتبَ نصوصه وأسرارهُ هذه بالأبيض والأسود، دونَ مؤثرات خارجية أو (فلتر) تجميلي حتى، بل كتبَها كما هي بسوادها وبياضها دون ملوّنات، لتكون له مطلق الحرية في فضائه ليكتب ما يشاء، عمّن يشاء، وكيفما يشاء..
وهنا قد يختلف كثيرون معهُ بمفهومه المطلق للحرية، وكنتُ واحدةً من هؤلاء عندما توقفتُ عند بعضِ المشاهد الساخنة ليجرحني سؤال دون أن أجد لهُ إجابة شافية (ماذا أرادَ فراس بالتحديد من هذه المشاهد؟)، فالمشهد ليس مشهداً اضطرارياً في رواية، وليست سيرة ذاتية ليكون حريصاً على الصدق والوصف التامّين لما وقعَ فعلاً، بل كانَ وصفاً حقيقياً كما ذكر في مقدمة الكتاب أن تجربته حقيقية، كما ورد في الصفحة رقم (8) على لسانه: “تجربتي بل تجاربي، في هذا الكتاب واقعية وحقيقية بالكامل ولم تكن على سبيل التخيّل أو التعويض النفسي“..
هل أرادَ أن يكون حراً على طريقة غاندي بقوله: “الحرية هي روح الإنسان وأنفاسه، فكم ثمن هذه الأشياء؟“..
فكان حراً طليقاً في فضائه دون أن يتركَ لنفسه عناءَ التفكير في العواقب، لأنّ قلماً حراً لن يكفّ عن التغريد والتحليق حتى في العتمة.
أو على طريقة مارتن كينج بقوله: “لا يستطيع أحد أن يمتطي ظهركَ إلا إذا انحنيتَ له“، فأرادَ أن يخفف وطأةَ حملٍ ثقيل على كاهل ذاكرته فعرّاها كما يعري برتقالةً من قشرتها..
 ربما فعلَ هنا ما لم يخطر ببالنا للوهلة الأولى، على طريقة جيمس بالدوين بقوله:”الحرية لا تُمنح وإنما يتم انتزاعُها“، أن يصنعَ حريةً ما لنساءٍ غلبهنّ الواقع فلم يستطعنَ البوح بعلاقاتهن لأسباب مجتمعية ودينية وشخصية، فأعطى لنفسه الحق بأن يفتح لهنّ الباب على مصراعيه كأنهنّ عصافير طيّرهن الى فضاء لا يُعرفُ لهن فيه أسماء وأتاح لهن “الفضفضة” غير المباشرة، انتزعَ منهنّ ومعهن حكايات الحب والجسد والشهوة وأطلقهنّ عبرَ كتاب..
وربما نصّبَ نفسه الأمل الذي تحدث عنه ابراهام لينكولن “بأن الحرية هي آخر وأفضل أمل على ظهر الأرض“، فأطلق لنفسه العنان وكتب ما كتب، ليكون الأفق الذي أطلق لهؤلاء النسوة الفرصة بالصراخ والنشيج (نحن نحب، نحن نشعر، نحن نخطئ، نحن ونحن ونحن)، ولن يحاسبنا أحد لأننا مجرد حكايات وأسرار مجرد كشفنا اختفينا..
استوقفتني جمل كثيرة وجميلة وثرية في الكتاب منها:
لم أكن جميلاً بما يكفي، كنّ أجملَ مني، وهنّ يهدينني أجمل ما لديهنّ من طقوس لأصنع تماثيلي اللغوية“.

كل تمنياتي بالتوفيق للكاتب، آملةُ لهُ الانشقاق عن نسوته، لتُعمّرَ كتبهُ بما يفيض من إبداع متجدد، فأن يتعدد الكاتب باتجاهاته وأفقه يجد بصيرة أخرى، قد يلوك فيها ما كتب سابقاً دون انتزاع حريته التي يشاء. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…