راحلٌ يرثي مُدناً تموت

كمال جمال بك

عندما يرحلُ من نُحبّ نموتُ انتظاراً ببطىء، أَو ذكرياتٍ حارقةً، أَو أَحلاماً متبعثرةً، أَو آمالاً في الأفق الغامضِ البعيد.
وعندما يُوارى مبدعٌ في الثَّرى بعيداً عن بلادهِ المنكوبةِ استبداداً واحتلالاً وتشريداً وجوعاً، ينقصُ العالمُ جمالاً وطيبةً، ويزدادُ قُبحاً وتوحّشاً.
في طينةِ الشاعر الدكتورعبد الصَّمد صقر‏ اجتمع َ الإنسانُ والمثقَّفُ والأكاديميُّ والشَّاعرُ والنَّاقدُ والخِصالُ الحميدة، وتعدَّد في بستانهِ ثمارُ الأُلفة والمحبَّة. 
قبائل الشوق تذكي ثورة بدمي
فأستحيل غراما دائم الألم
وأتبع الظل مني لست أعرفني
حتى تغيب معاني جبهتي وفمي
هذي العناقيد قلبي بعدما اختمرت
هذي المزامير نَوْحي قاتم النَّغَمِ
تلك القصائد أشلائي أُنَظِّمُها
إذا الخلودُ فَراشٌ قُدَّ مِنْ حُلُمي
في العشرين من أيار الماضي نشرَ الشَّاعر قصيدة معادة، “غَزَّةَ..أَوْ قِيامَةُ اْلعَنْقاءِ” لتكونَ بذلك آخرَ قصيدةٍ موثَّقة في صفحته الخاصة، شاهدةً وشهيدة، وهي قصيدةٌ طويلةٌ كتبها صقر أيّامَ الحرب على غزّة 2008، ثم أَعادَ صياغةَ بعضِ مقاطعِهَا قبل ضمّها إِلى مجموعة ” التكوين والقيامة”  وفيها يقول:
إِنّي تَمَلّكَني الْحَنينُ إِلَى الّذينَ أُحِبُّهُمْ 
وَمَضَوا ؛
فَتَخْضَرُّ السَّماءُ بِهِمْ
وَتُمْطِرُ أَرْضِيَ الشُّهَداءُ
تُخْصِبُ ما تَزالُ
فَهَا أَنَا ذِي 
صِرْتُ أَحْتَضِنُ السّماءْ
هِيَ كَثْرَةُ الْمُسَحاءِ مِنْ أَبْرارِيَ السّاريْنَ
يَتَّشِحونَ آمالَ الأسيْرْ
وعلى الرَّغمِ من تعدُّد أَلوانِ الطيفِ الشعريّ عند الدكتورعبد الصمد إلَّا أنَّ الجزالةَ والفصاحةَ والغنائيّةَ العذبةَ وتَشرُّب النصّ بين الواقعيّ والأُسطوريّ ببُعديهِ الفكريّ والفلسفي قواسمُ مشتركةٌ عندَهُ وتأتلفُ في حُجْرَةِ الحبّ الصافيةِ اختياراً وحريّةً ومسؤوليةً وعمْقاً وجوديّاً والتزاماً قِيَميّاً واحتراماً إِنسانيَّاً: 
في الإصحاحِ الأَوّلِ من سِفْرُ تَكْوينِها يقول: 
في البَدْءِ كانَ الْحُبُّ كانَ جَمالُها سِحْراً تَأَنّقَ في يَدِ الْباري تَعَتَّقَ طَيُّهُ .. 
أَوْ نَشْرُهُ فَكَسا عِظامَ النّورِ مِنْ أَنْفاسِهِ بِدْعًا تَأَلَّقَ في جَبينِ الدَّهْرِ خُلْدًا لا يَريْمْ 
وَتَبارَكَ الرَّحْمَنُ في إِعْجازِهِ أَنْ يَجْعَلَ الشِّعْرَ – الرَّحيقَ حَبيبَتي.. 
في أَوَّلِ التَّكْوينِ مِنْ آياتِهِ فَأَغيبَ عَنْ وَعْيِي؛ لِأَغْدُوَ في إِسارِ قَصيدَتي .. أَو مُسْتَحيلي! 
في الرَّحيلِ تُفجعُ القلوبُ بالخسارةِ، فتداري صقيعَ الفَقْدِ بالذكريات.. 
في العشرين من أيلول/ سبتمبر 2013  سَنَدَ صقر روحي في أزمةٍ صحيَّةٍ لها آثارُها، وكتبَ على صفحتي الشخصيّة عن حادثةٍ من الذَّاكرةِ البعيدة، كانت غائمةً في متاهتي، وصارت لها بعد التعليق خصوصيةٌ، وفي الغياب عن دنيانا صارت الرُّوح تتلو كلماتِ عبد الصَّمد جَمْرةً جَمْرةً وحَرْفاً حَرْفاً:        
  
” لا أذكر متى كانت أول مرة التقينا فيها بالضبط. كنا في كلية واحدة، وإن كل منا في قسم، هو في قسم الفلسفة، وأنا في قسم اللغة العربية. كان مسكونا بالأدب، ولا سيما الشعر والنقد.
جمعنا مرة مهرجان الأجناس الأدبية بدمشق في عام 1987م مع ثلة من الأصدقاء. 
والتقينا فيما التقينا بالمكتبة الوطنية، فعرض علي مجموعة شعرية قيد النشر، وكان نقاشنا فيها عميقا في كثير منه.
كل ما سبق ليس فيه من مفاجأة؛ فبم يمكن أن نتحاور في غير ذلك؟!
واتفق مرة أن عدت إلى المكتبة بعد غياب إذا به يتقدم مني ويعطيني أوراقا كانت سقطت مني في غيبة منه، لكنه وجدها في بهو الفهارس، وسألني: أهذه الأوراق لك؟
أجبته بلهفة ومفاجأة: نعم، ولكن كيف عرفت أنها لي؟
قال: قرأتها، وبحثت في ذاكرتي عن كل من أعرفه ينشد شعرا، فبدا لي أنها لك.
قلت له: ولكنها مسودة قصيدة غير مكتملة، ولما أمهرها بتوقيعي.
قال: اعتمدت على حدسي.
كانت قصيدتي بعنوان (أصوات متداخلة الأبعاد، أو رثاء المدن التي ستموت)
ومن يومها كلما قرأت قصيدتي التي ضاعت لولاه تذكرته، وحضر أمامي موقفه الذي سبب لي دهشة تتكرر.
إنه صديقي كمال جمال بك.
أيها الكمال الحر لك مني خالص التحايا” 
ولكَ مِنّا السَّلام والتَّحايا..
* الدكتورعبد الصَّمد صقر أُستاذ مساعد في الجامعة الأمريكية للعلوم الإنسانية في الكويت. عضو هيئة تدريسية منتدب-كلية التربية الأساسية- الهيئة العامة للتعليم التطبيقي-الكويت‏ لدى ‏وزارة التربية.‏ كان يعمل لدى ‏الجامعة العربية المفتوحة.‏
درس في ‏كلية الآداب – جامعة دمشق. من مؤلفاته الشعرية المطبوعة:
(يُهَا الْمَوت .. أَيَّتُها الْحُرِّيَّة) 2003
(التكوين والقيامة) 2014

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…