مورفين أحمر رواية للكاتبة مجدولين الجرماني

هند زيتوني| كاتبة سورية 
قبل الحديثِ عن روايةِ “مورفين أحمر”، لا بدَّ من أن أتحدَّثَ قليلاً عن الأديبةِ والشاعرة مجدولين الجرماني. التقيتُ بها في دمشق في زيارتي التي قمتُ بها للوطن مؤخراً. فمجدولين امرأة مفعمةٌ بالعطاء والجمالِ الخارجي، والداخلي الذي ينهمرُ منها كجدولٍ أزرقَ لازوردي. تبتسمُ دوماً لتشعركَ بالفرحِ والاطمئنان. تقودُ مركبتَها وسطَ الزحام، تحاولُ أن تجدَ بدايةَ الطريق في اختناقات الشوارع القاتلة، تقفُ مثلَ بقيَّةِ الآلاف من الناس لتملأَ خزَّانَ الوقود، لتحصلَ على لقمةِ العيش المغمَّسةِ بالدم. في وقتٍ شحَّ فيه كلُّ شيء حتى الابتسامة على الوجوه.
مجدولين تعمل (كوتش) أو -مدربة تنمية بشرية-  وما أصعبَ أن تقومَ بهذه المهنة في هذا الوقت العصيب، و في هذه البقعة من العالم التي مازالت مبلَّلةً بدمائها ويأسِها ودموعها! ولكن لا بدَّ من العمل والتضحية، إنه الوطن يا رفاق والوطن غالٍ جداً لا يقدّر بثمن.
فإن كنتَ تعملُ مدرباً لترويضِ الألم ومعالجاً نفسيَّاً للأفراد المتعبين والمهمومين، في هذا الوقت المستحيل، فهذا يتطلَّب منك أن تكونَ طبيعياً، سعيداً، متفائلاً، ومبتسماً، حتى لو كنتَ في المكان الذي ما زال ينزف، ويرمِّمُ جراحَه، ويجمعُ صورَ أبنائه الغائبين.
في الزمن الصَّعبِ الذي تحاولُ فيه مجدولين، أن تكون إنسانةً قوية، لتقولَ للجميع: (لا تقلقوا كلُّ شيءٍ بخير صدقوني. وغداً سيكون أجمل). ربما تكونُ هي ذاتُها تعاني من أشدِّ الأزماتِ الصَّعبة، ولكن  عندما تراها لا يخطرُ ببالك أنها ما زالت تعيشُ في وطنٍ خرجَ من معركة دامية، مدنُه تعرَّضتْ للقصف والقنص والتَّهديم، شوارعُ تعرَّضتْ للحصارِ والمجاعات… أرضٌ تكالبتْ عليها وحوشُ العالم أجمع وشياطينها لتحرمَه من الأمن والأمان  وأهمِّ متطلَّباتِ الحياة الأساسيَّة. تنهبُ خيراتُه وثرواته، وتعيدُه للوراءِ عشرات السنين.
أعودُ لروايتها “مورفين أحمر “، كما قال الروائي الكبير، والطبيب السوداني  أمين تاج السرّ: “في مورفين أحمر لا يوجد رواية كلاسيكية، تبدأ وتنتصف وتنتهي بالمسرة أو بالحزن، ولكن هناك جزيئاتٌ كثيرةٌ تتَّحدُ حيناً وتُفرَّق حيناً كجسد بنائي، ولا نختلف  في منحها للمعنى  الوجودي للإنسان”.
من أصعب الأشياء أن نكتب عن الرواية التجريبية، ففي روايتها مورفين أحمر تحاول الكاتبة، أن تضعَ أمامنا، البدايةَ والحبكة والنهاية على طبقٍ من شغف، فتنسجُ خيوطَ روايتها مع شخصياتها اللواتي يتعثرن في مسيرةِ الحياة المسدودة بأكوامٍ من الحجارة الصماء.
بلغةٍ شعريَّة، آسرة، ترتدي حلّة الأساطير والميثولوجيا، تشدُّنا الأحداثُ التي لا تخلو من الجرأة، تكشفُ النقابَ عن معاناةِ النساء وآلامهنّ. ففي الحربِ  هنَّ أوَّلُ من يتأثَّرُ بفقدِ الزوج والابن والحبيب. ويشكِّلُ ذلك عبئاً إنسانيَّاً مؤلماً يكون فوق الاحتمال. ففي زمن الخراب والأزمات الكبيرة، تسقطُ الأقنعة، وتتغيَّرُ المصائر، حيث يتعرَّضُ الأفرادُ إلى الكوارثِ الاقتصاديَّة والنفسيَّة: الدمار،  والرحيل، والفقد، والمرض، والموت، وصعوبة العيش، والغلاء، وفقد المواد الأساسية للعيش.
تقول في إحدى مقاطع الرواية: “هكذا نحن النساء نغلّف قلوبنا بالسولوفان اللامع هدية لمن يخذلوننا فلا أحد مفطور منذ جبلته الأولى على الخيانة، فقط عين البصيرة يغشاها الشك. وحلقاتُ الخذلان، تبدأ بخذلان أهلنا لنا، خذلانِ أصدقائنا، خذلان أولادنا والنتيجة النهائية خذلان أنفسنا”. كما تقول في مقطع آخر، ممتعٍ ومختلف: “لو رأيتَه كيف يبتلعُ لقمتَه، كأنه يقودُ حرباً، أحياناً أشعر بالتقزز وكأنني أنا التي تُمضَغُ تحت أسنانه وتُهضَم”.
رواية مورفين أحمر، هي صرخةٌ إنسانيَّةٌ وقد تكون صرخةَ وطن، تفتحُ بابَ المعاناةِ الذي تقفُ خلفه عدَّةُ نساءٍ معذبات، مررن بتجارب إنسانية قاسية، في مناداة مؤلمة تقول بطلة الرواية: هذا السؤال الوجودي: “هل يجوز أن نموت هكذا؟ بلا رادع أو حارس على أحلامنا وتمنياتنا، اختفت الشمس وراء الأفق، وما زلنا نسير بلا هدىً وكأن الزمن توقف ونحن نسبح في هذا الفضاء الشاسع بلا دليل يأخذنا لنرتاح”.
وبالرغم من تلك الصعوبات، والظروف السيئة، تحاول شام أن تجد حلاً لكل من هزمته الحياة لتنجوَ بهم وتبحرَ عبر الأمواج الهائجة، لترسوَ على شاطئ الأمان والحب والفرح. وتحاول أن تجدَ نفسها التائهة في وطن هو شام وكأن شام هي قصة وطن بأكمله يعيش أصعب المحن.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

فراس حج محمد| فلسطين

تتعرّض أفكار الكتّاب أحياناً إلى سوء الفهم، وهذه مشكلة ذات صلة بمقدرة الشخص على إدراك المعاني وتوجيهها. تُعرف وتدرّس وتُلاحظ تحت مفهوم “مهارات فهم المقروء”، وهذه الظاهرة سلبيّة وإيجابيّة؛ لأنّ النصوص الأدبيّة تُبنى على قاعدة من تعدّد الأفهام، لا إغلاق النصّ على فهم أحادي، لكنّ ما هو سلبيّ منها يُدرج…

عمران علي

 

كمن يمشي رفقة ظلّه وإذ به يتفاجئ بنور يبصره الطريق، فيضحك هازئاً من قلة الحيلة وعلى أثرها يتبرم من إيعاقات المبادرة، ويمضي غير مبال إلى ضفاف الكلمات، ليكون الدفق عبر صور مشتهاة ووفق منهج النهر وليس بانتهاء تَدُّرج الجرار إلى مرافق الماء .

 

“لتسكن امرأةً راقيةً ودؤوبةً

تأنَسُ أنتَ بواقعها وتنامُ هي في متخيلك

تأخذُ بعض بداوتكَ…

 

محمد إدريس *

 

في ذلك المشهد الإماراتي الباذخ، حيث تلتقي الأصالة بالحداثة، يبرز اسم إبراهيم جمعة كأنه موجة قادمة من عمق البحر، أو وترٌ قديم ما زال يلمع في ذاكرة الأغنية الخليجية. ليس مجرد ملحن أو باحث في التراث، بل حالة فنية تفيض حضورًا، وتمنح الفن المحلي روحه المتجددة؛ جذورٌ تمتد في التراب، وأغصانٌ…

 

شيرين الحسن

كانت الأيام تتسرب كحبات الرمل من بين أصابع الزمن، ولكن لحظة الغروب كانت بالنسبة لهما نقطة ثبات، مرسى ترسو فيه كل الأفكار المتعبة. لم يكن لقاؤهما مجرد موعد عادي، بل كان طقسًا مقدسًا يُقام كل مساء على شرفة مقهى صغير يطل على الأفق.

في كل مرة، كانا يجدان مقعديهما المعتادين، مقعدين يحملان آثار…