رحيل الكردي النقي جميل عيسو (*)

علي شمدين  
لقد كانت الشخصية الاجتماعية البسيطة والمألوفة (جميل عيسو)(1)، معروفاً على صعيد منطقة القامشلي عموماً، وفي منطقة آشيتا بشكل خاص، والذي كاد عمره أن يبلغ القرن من الزمن، فهو من مواليد  قرية تل شعير عام (1927) ، وكان حتى آخر يوم من حياته يتميز بالحيوية والصحة والنشاط، ويتنقل من منطقة إلى أخرى، ومن مناسبة إلى أخرى، ويحضر  مع الناس أعراسهم وأفراحهم، ويشاركهم تعازيهم وأتراحهم، ولا ينسى أن يوزع عليهم أعواد الـ (Devdernîş)(2)، وقد كان يقطع المسافات بين القرى الكردية حاملا تحت معطفه الكتب والدواوين الشعرية والمنشورات السياسية الكُردية، التقى معظم قادة الحركة الكردية في سوريا، الذين كانوا يعتبرونه رسولهم المؤتمن عليه والموثوق به في نقل رسائلهم وكتاباتهم، وقد تعرض بسبب نشاطاته ونضاله للاعتقال على يد أجهزة الاستخبارات آنذاك لأكثر من عشر مرات، حيث اعتقل أول مرة عام (1956)، كما أن (حكمت ميني)، ربطه ذات مرّة برسن الفرس وسحله خلفه بين أزقة قرية (تل شعير)، حينها قام بتعذيبه بشكل وحشي، وفقد جميل على إثر ذلك وعيه، وما أن استيقظ من غيبوبته حتى وجد نفسه في سجن القامشلي، ولكن لم تجد محاولات تلك الأجهزة نفعاً، ولم تتمكن من الحصول منه على أيّ شيء(3).
كان جميل على تواصل دائم مع  جكَرخوين ويرتل عليه قصائده بدقة وإتقان، وفي لقاء له مع جريدة (بوير برس)(4)، يقول بأنه ذات مرّة ألقى على مسامع جكَرخوين قصيدته (Fala Qereçiyan)، بسلاسة ومن دون أخطاء، حتى أن جكَرخوين قال له: (يا جميل، صدقني إنك تلقي قصيدتي أفضل مني)(5)، ويتابع قوله، بأنه في لقائه مع أوصمان صبري في القامشلي، تلقى منه العلم الكردي هدية، ويقول بأنهم احتفلوا به في قرية تل شعير وأشعلوا حوله النار وعقدوا حلقة الرقص فرحين به لأنهم كانوا يرونه لأول مرّة، ويتابع قوله بأن جلادت بدرخان جاء إلى قرية تل شعير، وحل ضيفاً على ملا أحمد نامي، ويقول بأن جلادت فرح جداً عندما علم بأننا تعلمنا الأحرف الكردية باتقان، وألقينا عليه نشيد (Herne pêş)، فانهمرت الدموع من عينيه فرحاً، وبأنه وعدهم بتأمين الأقلام والورق وإرسالها لهم، وبأنه وفىَّ بوعده بالفعل.
وفي لقائه مع صحيفة (بوير برس)، يقول بأنه التقى في تربسبيي مرات عديدة بالشاعر (هزار موكرياني/ Hejar Mukiriyanî)، وبأنه بات بصحبته ذات ليلة في غرفته الترابية التي كانت تدلف بينما كان هو يتلو قصائده، وكذلك التقى الدكتور نور الدين زازا، ويقول بأنه لم يلتق من قبله بأحد بهذه النعومة واللطف والثقافة، ومرتبط مثله بقوميته هكذا، ويقول بأنه كان يتردد على تل شعير، راكباً الموتورسكل، ويحل ضيفاً على ملا أحمد نامي، وبأنه كان يقول: (أيها الشباب، من دون التعليم سنظل رعاةً وعبيداً)(6)، ويتابع جميل حديثه وهو يقول متنهداً: (هل تعلم من رأيت في تل شعير، ومن لم أره ؟! لقد رأيتهم جميعاً، كلهم كانوا يترددون على تل شعير، حتى إنهم سموا هذه القرية باسم موسكو الصغرى)(7).
يضيف جميل بأن حمزة نويران ورشيد حمو أيضاً كانا يزوران ملا أحمد نامي، وبأنه ذات مرّة جاء معهما شاب يافع، كانت تبدو عليه علامات الوعي والذكاء، وكان يتحدث في مجالسهم بسلاسة، ويقول: (تساءلتُ في نفسي، ترى من يكون هذا الذي يتحدث في مجلس هؤلاء الأساتذة الكبار؟ علمت أخيراً بأنه هو حميد درويش، وقد جذب انتباهي بالرغم من سنه الصغير، ومكث في تل شعير لفترة غير قصيرة، وكنت أرافقه خلال وجوده، وهو الآخر وثق بي، فكنت أنقل له رسائله، وآتي إليه بأجوبتها، وكان حميد هو الآخر يطالبنا أن نتعلم كل شيء، وخاصة التاريخ والثقافة الكردية، وقد تعب معنا الرجل كثيراً، كنت أقول- حينها- في نفسي بأن هذا الشاب سيصبح يوماً ما ذي شأن بين الكرد)(8).
ويقول جميل: ( لقد كدت أن أطير فرحاً، وانهمرت دموعي عندما علمت بأن جكَرخوين نظم قصيدة عني، في وقت تجاهل الجميع جهودي وأتعابي)(9)، ويتابع قوله: (ذات مرة قال لي جكَرخوين: جميلوووو، أقسم بأنك تعبت كثيراً، ولن أنسى جهودك أبداً.. عندما علمت بوفاته أغمي علي، وتم إسعافي حينها إلى المشفى..)(10).إن جميل عيسو شخصية بسيطة لها حضورها في مناسبات المنطقة، نظم جكَرخوين في مدحه قصيدة طويلة، بعنوان (Rebename)، وهذه ترجمة نصها:
                                 رسالة الكادحين(11)
أيّها الرفيق جميل، الجميل جداً
كافحْ كالأسد والفيل
لا تصغي لمئات القال والقيل
اصرخْ من قلبك
 إن وجهك يغطيه الجدري، وعيونك أعمى
ولكنك أعطيت النور للطور والزور
صوتك ارتفع نحو السماء
قلبك نظيف، وعملك ثمين
اصرخ واطلق مئات الآهات
قل لأولئك الكرد الجهلة
لا تسلموا السلطة للسفلة واللصوص
لا تقووا السلطة فوق رؤوسكم
الترك والفرس، لابل الجميع
دوماً يمتصون دمنا  
نحن عميان، لانعرف أين تتجه هذه الباخرة
ومن راكب على متنها؟
أيّها الرفيق جميل، أرجوك
أن توصل مئات السلام للرفاق
وإلى يوسف لطيفي بالاسم
أين يعيش هو الآن؟
 أين قيصر وعبد الحميد؟
أين فيصل والسلطان وحيد؟
أين رضا خان ومجيد؟
أين خسرو ذو القرط الذهبي؟
كلهم رحلوا، وعاش الشعب
لتصبح الحياة جميلة
ويعيش فيها الجميع بسعادة
ولن تدمى الأكباد بعد الآن
كفانا صياحاً وصراخاً..
————-
الهوامش:
(*)- بمناسبة وفاة الكردي النقي (جميل عيسو)، في يوم الأحد المصادف (10/7/2022)، نشرنا هذا النص المقتبس من كتابنا (منطقة آشيتا: دراسة سياسية ثقافية اجتماعية، الصادر عن الأكادمية الكردية بهولير، 2022، ص 65- 69).
(1)- تقرير دلوفان جتو (قناة كُردستان 24 )، في (18/8/2018)، راجع:
 (2)- الخلة: نبات بري من الفصيلة الخيمية، يسمى في آشيتا (Devdernîş)، ولكن في غربي القامشلي يسمى (Dirankirosk)، تستخدم أعواده لتنظيف الأسنان.
 (3)- راجع اللقاء الذي أجراه الإعلامي (أحمد بافي آلان)، مع (جميل عيسو)، في (8/6/2014)، ونشره في صحيفة (Buyerpress)، على الرابط:
(4)- المصدر نفسه.
(5)- المصدر نفسه.
(6)- المصدر نفسه.
(7)- المصدر نفسه.
(8)- المصدر نفسه.
(9)- المصدر نفسه.
(10)- المصدر نفسه.
(11)- نشر الشاعر الكبير جكرخوين هذه القصيدة الطويلة  التي تتألف من (68) بيتاً، باللغة الكردية الأحرف اللاتينية في ديوانه السادس ( الفجر/ Şefaq)، وقمنا هنا ترجمنا بعض الأبيات منها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…