طفولتي في زمان ومكان (سيرة الصبا) لسليم بركات – الجزء الثاني

بهزاد عبد الباقي عجمو

علمنا أحد أساتذتنا في الجامعة عندما نقرأ أي كتاب حتى نستوعبه جيدا يجب أن نقرأه بعين ناقد لذا فعندما قرأت ( سيرة الصبا ) لسليم بركات قبل أكثر من ربع قرن حاولت أن أكون قارئا وناقدا في نفس الوقت وقد ساعدني على ذلك أنني عشت أحداث هذه السيرة بكل تفاصيلها الدقيقة وأعتبرها من ذكريات الطفولة وأتذكر وأعرف شخوص هذه السيرة واحداً واحداً وكيف لا ونحن كنا نعيش في حي واحد بل وفي شارع واحد ولكن الشيء الذي لفت نظري وحز في نفسي هو أنه أتى سليم بركات على ذكر الشخصيات البسيطة وأحيانا السفيه ولم يأتِ على ذكر شاعر كبير مثل جكر خوين رغم أن منزله لم يكن يبعد عن منزل شاعرنا الكبير سوى خطوات قليلة
 فهل لو كان سليم بركات يسكن بجوار محمود درويش أو سميح القاسم فهل كان سيتجاهلهما أو يغفل عن ذكرهما لا أعتقد ذلك ، فالسؤال الكبير الذي يطرح نفسه لماذا تجاهل شاعرنا الكبير جكر خوين وأغفل عن ذكره هذا السؤال يدخلنا في علم النفس فهل كان سليم بركات يكره جكر خوين ولا يريد أن يتذكره لأن جكر خوين كان يكتب الشعر باللغة الكوردية أو أن سليم بركات لا يريد أن يعترف بالشعر الكوردي ولا اللغة الكوردية لأنه منذ أن هاجر من قامشلي خلع ثوب الكوردايتي ولبس ثوب العروبة وتعاطف مع القضية الفلسطينية أكثر من تعاطفه مع قضيته الكوردية ولكن أقول لسليم بركات إذا أنت نسيت  أو تناسيت جكر خوين فأننا لا نستطيع أن ننسى مثل هذا الشاعر الكبير وصورته لا تبارح مخيلتنا وله فضل كبير على كل الكورد في روج آفا وخاصة الشعراء منهم وبما أن سليم بركات تناسى جكر خوين فسأذكرُ القراء بهذا الشاعر الحكيم وخاصة أولئك الذين لم يسعفهم الحظ لرؤية هذه الشخصية الفذة فقد كنا نسكن في شارع ( طريق عامودا ) مقابل معمل الجليد بينما شاعرنا كان مستأجراً عند عائلة مسيحية في نفس الشارع وقد تحول هذا البيت إلى مول يسمى ( أزاد مول ) وكان صاحب البيت يدعى كوريه حاوي وزوجته ( نوره ) حيث كانت لغتهم الأم هي الكوردية فقد تعلم كوردية العربية الركيكة هنا في القامشلي أما ( نورة ) فلم تكن تعرف سوى الكوردية فعندما كان يخاطبها شخص ما بالعربية أو السريانية فكانت ترد عليه بالكوردية فعندما كنت أذهب إلى مركز المدنية كنت أرى جكر خوين وهو جالس على كرسي صغير يتأمل شجيرات العنب المزروعة في فناء الدار لعله كان يتذكرقريته ( هسار ) في باكور وفي بعض الأحيان كان يأتي لزيارة والدي في متجره الذي يقع في مركز المدنية حيث كان يربطه صداقة مع والدي حيث كان والدي يحترمه ويقدره كثيراً لما له من فضل كبير في مجال الشعر والأدب الكوردي وقد كان والدي يحفظ بعض قصائده الوطنية عن ظهر قلب ويرددها لنا أحيانا في البيت بصوته الجهوري لذا كان هناك احترام متبادل بين والدي وشاعرنا الكبير وعندما يكون في زيارة لوالدي في متجره يجلس على كرسي بينما أنا كنت أقدم له كأس الشاي وآتي بكرسي صغير وأجلس في الطرف المقابل له وأضع كفي على صدغي مثل تلميذ صغير يجلس أمام أستاذ كبير وأتأمل وأفكر في كل كلمة أو عبارة أو جملة ينطق بها من خلال حديثه مع والدي مع العلم بأنه كان قليل الكلام وأن نطق فإن جمله كانت حكمة فقد كان يفكر أكثر مما يتحدث يفكر في كلام محدثه ويفكر بماذا سينطق وأن تحدث فيزن كلامه بألف ميزان لذا فقد كنت أحاول أن أتعلم منه لأنني كنت اعتبره شيخ حكيم قبل أن يكون شاعرا ولكن الشيء الذي أدهشني حينما كان يسير في الشارع كان يمشي برشاقة وخطوات سريعة رغم كبر كرشه وتقدمه في العمر وثقل وزنه فقد كانت مشيته أشبه بمشية شاب في مقتبل العمر وفي أحد الأيام بعد أن بدأت العطلة الصيفية للمدارس أتى بابنه الأصغر ( آزاد ) إلى متجر والدي وقال لوالدي أريد أن يعمل أزاد خلال هذه العطلة الصيفية عندك ليس من أجل الراتب الذي ستعطيه وإنما ليتعلم التجارة وجمع الثروة لأنه كان يعرف جيدا عن والدي بأنه رجل أعمال ناجح هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ربما أنه لم يكن يريد بأن يكون أبناؤه شعراء وكان يود أن يبعدهم عن جو الشعر لأنه ذاق الأمرين حينما أصبح شاعرا حيث الفقر والعوز والحاجة والحرمان وكما يقول بعض الشعراء ( الشعر هي مهنة الفقر ) وقليلين من الشعراء في العالم استطاعوا أن يكسروا هذه القاعدة، وأزاد كان في غاية الهدوء والاتزان والخلق الرفيع والاحترام وكيف لا وهو ابن رجل حكيم اسمه جكر خوين حيث استطاع أن يبني شخصية أبنائه بعقلانية وحكمة وعندما رأيت كل هذه الخصال الجيدة في شخصية آزاد حيث عندما كنت أراه كنت أرى في شخصيته صورة مصغرة عن شخصية جكر خوين الفذة لذا توطدت أواصر الصداقة بيننا رغم فارق العمر حيث كان في المرحلة الثانوية بينما كنت في المرحلة الابتدائية وفي الختام أود أن أقول تأثير جكر خوين في تاجيج الحس الوطني والقومي كان أكثر من تأثير كل الأحزاب الكوردية في تلك الفترة وحتى الآن وأود أن أقول لسليم بركات لك محمود درويش وسميح القاسم ولنا جكر خوين وكل الشعراء الكورد وإذا كنت تعتز بصداقتك مع محمود درويش فأنا أعتز بأنني جلست مع جكر خوين وأنا طفل صغير واستمعت إلى أحاديثه وتعلمت منه الحكمة منذ نعومة أظافري ومن خلال قراءتي لدواوينه زرع في قلبي بذرة حب الوطن لذا فقد حفر اسمه في ذاكرتنا نحن الكورد .. لا تستطيع الأيام ولا السنين أن تمحيها ولا يستطيع أمثال سليم بركات أن يجعلنا ننساه كما حاول أن يتناساه وأن يتجاهله .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…