ختيرتُ والله ختيرت

إبراهيم محمود
ختيرت والله ختيرت
عمري الذي راهنتُ عليه في الشدائد
الذي ارتديته في الطرق السالكة بصعوبة
الذي تقدَّمني في الليالي المتباهية بسوادها
الذي أحلتُه مجدافين في النهر غير الصالح للملاحة
ختيرت
إنما ما زلت أقيم على الهامش
في الوقت الضائع غير المحتسب
وكل خطاي نظر إلى ما وراء الأفق
وكل تحليقي إلى الجهات المنزوعة الهواء
ختيرت والله ختيرت
***
لا أدري ما إذا كان الورد المجنح بعطره يلحق بي أم أنا أتبع خطوط عطره الفتيّ النفاذ
لا أدري ما إذا كان النهر المرفَق بضفَّتيه يجالسني أم أنا أطلق طيّه شوقي إلى المصب
لا أدري ما إذا كان الجبل المعتمر بقبعته الثلجية يجلس بين يدي أم أنا أتوسد قمته المشعة
لا أدري ما إذا كانت الأرض تفتنني بمتعها السرية أم أنا أشهِد عليها أحلامي الممهورة بها
ختيرت والله ختيرت
***
لا أدري ما إذا كانت اللغة الطليقة بألفبائها تنمّي ظلي أم أنا أزرّر بها روحي
لا أدري ما إذا كان الصوت المطعَّم بالرحابة يموّجني أم أنا ألتحف ذبذباته
لا أدري ما إذا كان الحلم المعلَّم باللاتناهي يؤاسيني أم أنا أتوسل إقامته داخلي
لا أدري ما إذا كان العويل المحمَّل بالجراحات يقوّيني أم أنا أرجوه التلطفَ بي
ختيرت والله ختيرت
***
لا أدري ما إذا كنتُ قد استهلكت عصارة عمري أم تراها ألهمتني صبوتها المضافة
لا أدري ما إذا كنت قد صادرت نفسي لنفسي أم تراها أوهمتني بقوة نفسي
لا أدري ما إذا كنت قد تجاوزت حدود طيراني أم تراها رحَّبت بي في اللاحدود
لا أدري ما إذا كنت قد أودعتُ طريقي صدى انتشاري أم تراه مازال يمتد بي
ختيرت والله ختيرت
***
لا أدري ما إذا كنت يوماً استدعيت رغبة ما لي،حباً بشهوة ما، أو لاحقت رغبة ما، لاستزادة متعة ما، أو احتكرت رغبة   تيمناً بلذة ما، أو أدمنت رغبة ما طوع هوى ما
لا أدري ما إذا كنت يوماً متخلياً عن ظلي حباً بظل غيري، منتشياً باسم دون اسمي، مدثّر نومي بحلم نزيل سواه، مصاحب قمة لا يد لي فيها، محتجز هواء يتنفسه سواي
لا أدري ما إذا كنت يوماً أساوم على وردة نبْت كتابي، أضحّي بكتابة ضنى روحي، أهمل شجرة أورَقها توقيع لي، أعذّب عبارة استقرَّت في نص لي
لا أدري ما إذا كنت يوماً سمّيت طريقي دون سلوكه، رسمت أفقي دون تبنّيه، لوَّحت بآتيّ دون تسميته، أطلقت أنفاسي صامتاً عنها، أشرتُ إلى بحري دون مخر عبابه
ختيرتُ والله ختيرت
***
لا أدري ما إذا كنت يوماً قلت لمال أغثني وارهن روحي لبعض وقت
لا أدري ما إذا كنت يوماً قلت لصاحب جاه اسندني وقاسمني لسان قلبي
لا أدري ما إذا كنت يوماً طأطأت رأسي لكرسي، مقابل التخلي عن بعض ظلي
لا أدري ما إذا كنت يوماً مدحت رأسَ سلطوي وقلت لعيني تجاهلي ما ترينه
ختيرت والله ختيرت
***
لا أدري ما إذا كنت قد أقمت سماء لي أم تراها رفعت من مقام أرضي
لا أدري ما إذا كنت قد صالحتُ ما بين جهاتي أم تراها أشفقت على رؤاي
لا أدري ما إذا كنت قد جمعت بين برّي وبحري أم تراهما جاملاني 
لا أدري ما إذا كنت قد بلغتُ بخريطة أمانيَّ نصاباً أم تراها أرادت مراضاتي
ختيرت والله ختيرت
***
لا أدري ما إذا كنت يوماً حاجزاً بين الوردة وعطرها، بين الشجرة وظلها، بين النهر ومجراه، بين الجبل وعلوّه، بين البحر وأمواجه، بين الفراشة ورفة أجنحتها
لا أدري ما إذا كنت يوماً أمنع الصغر من ابتسامة، النجمة من ومضة، العشب من زهو، الوادي من غفوة، السنونو من تغيير اتجاه، الفصول من تسلسل، الصباح من انتعاش
لا أدري ما إذا كنت يوماً أؤخر في حلول المساء، أبقي القمر بدراً، أحصر الهواء في مكان، أعزل النار عن حرارتها، أبعد الغزالة عن رشاها، أحرم القطة من موائها
لا أدري ما إذا كنت يوماً أجلّد في العاشق قلبه، في النهر ينبوعه، في الصباح شمسه، في المرأة أمومتها، في المراهق ضحكته المجلجة، في الساعة عقربها، في العين بؤبؤها
ختيرت والله ختيرت
***
لا أدري ما إذا كنت يوماً مؤلباً للقصيدة على شاعرها،  للوحة على رسّامها، للفيلم على ممثّله، للغناء على مطربه، للحصان على فارسه، للحرية على طالبها، للماء على سبّاحه 
لا أدري ما إذا كنت يوماً سارقاً طريقاً من سواي، ناهباً إلهاماً من سواي، متلصص وداعة في سواي، محيلاً خراباً إلى سواي، عازلاً نوراً عن سواي، مفخخ نبع لسواي
لا أدري ما إذا كنت يوماً أتلمظ بعري ٍ غريب، أتشفى بسقطة ورقة يابسة، أبتهج بانجراف تربة، أترقب أفول أحدهم، أهجو قلماً باسمه، أقتنص فرصاً باسمي، أحتكر حياة نملة لي
لا أدري ما إذا كنت أمضيت عمري لعمري، أم بعمر غيري، أم أخلصت بعمري لعمري، وأبقيت عمري كما هو عمري،وعرِفتُ بعمري، وأردته حقيقة عمري حتى مضاء عمري…
ختيرت والله ختيرت  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حيدر عمر

هناك حكايات تتنازعها عدة ثقافات، مثل حكاية “شَنْگلو مَنْگلو / şekgelo mengloالتي تتنازعها الثقافتان الكوردية والفارسية، وهي مروية على لسان معزاة توصى صغارها الثلاث بألَّا يفتحوا باب الحظيرة في غيابها إلَّا بعد أن يسمعوا منها أغنية معينة تغنيها لهم. سمعها ذئب في أحد الأيام، كان يمر في الجوار. بعد ابتعادها عن صغارها، جاء الذئب،…

محلل
يقال احيانا ان هناك “رجالا لم ينصفهم التاريخ”، وكان التاريخ كائن جائر، يوزع المجد والانصاف على من يشاء ويحجبه عمن يشاء. غير ان التامل العميق في معنى التاريخ ووظيفته يبين ان هذه العبارة، على شيوعها، ليست دقيقة؛ فالتاريخ، في جوهره، لا يظلم احدا، بل يمارس عملية فرز طويلة المدى لا تخطئ في نتيجتها النهائية، حتى…

د آلان كيكاني

منذ اشتعال فتيل الجنون في سوريا يسهل عليك تمييز السوري من بين الناس أينما كنت، وأينما كان هذا السوري…

ولو كنت دقيقَ ملاحظةٍ لعرفته من على بعد مئات الأمتار.

لا لرائحة خاصة تميزه كما عند بعض الكائنات.

وليس لسحنة مميزة تخصه كما عند بعض الشعوب.

وإنما لأسباب أخرى …

مثل إطراقة الرأس.

والكآبة البادية على محياه.

وربما لاحمرار عينيه وذبولهما.

ها…

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “سيرة النصّ المفتوح – رحلة واسيني من تلمسان إلى السوربون” للباحثة والكاتبة السورية أماني محمّد ناصر. وهو يمثل دراسة نقدية معمّقة تتناول المسار الإبداعي والفكري للروائي الجزائري واسيني الأعرج، أحد أبرز الأصوات السردية العربية المعاصرة، من جذوره الريفية الأولى في تلمسان إلى موقعه الأكاديمي في جامعة السوربون…