اسطنبول وتناقض الهواجس

ماجد ع  محمد

يدفع القارئ للتفكيرِ هنيهات غير قليلة تنبؤ الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير المولود في 1821 والمتوفي في 1880 بخصوص مدينة اسطنبول عن أنها ستصبح خلال قرن عاصمة العالم، وذلك عقب زيارةٍ للروائي إلى المدينة في زمانه، هذا بالرغم من أن الذي ذكر هذه المعلومة في كتاب “اسطنبول/ الذكريات والمدينة” أي الروائي أورهان باموق كان يراها مدينة الخراب ويعتبرها سوداوية نهاية الامبراطورية، إلاّ أن رأيي فلوبير بالمدينة عندما صادفتُه جاءَ مترافقاً مع شعوري بالانبهار بالمدينة التي تحدث عنها الكاتب الفرنسي وقت زيارته لها، وذلك من خلال رؤيتي للمباني الشاهقة والجسور الضخمة والخدمات المتوفرة للأوادم فيها، إضافةً إلى الحدائق التي تزيّن مساحات كبيرة من تضاريس المدينة النابضة بالحياة.
وهذا الأمر على كل حال كان في بداية لجوئي إلى تركيا واستقراري المؤقت في اسطنبول عام 2014، أما السوداوية التي ذكرها باموق فقد عشنا تفاصيلها لأسابيع  إبان الهزات الأرضية التي تضرب المدينة كل مدة من الزمن، وحيث إن المرء عقب الكوارث الطبيعية يغدو زاهداً، يائساً، فاقداً جميع أكياس الأماني والتصورات دفعةً واحدة، تاركاً الدنيا وملذاتها إلى حين، فلا تحلو بعينه وقتها لا زينتها ولا أي شيء من الأبهة والعظمة والحضارة المادية من حوله.
فأن تعيش في اسطنبول على الأغلب ستكون بداية المشاعر الإيجابية لديك كمن كان فيما مضى فقيراً وفجأةً صار من ميسوري الحال، وأن تكون مديوناً حتى أذنيك في أمسك وهب ترى نفسك معفى من الديون في غدك، وتعيش حراً من قيود الدائنين ومتحرراً من مخاوف الحواجز المنصوبة أمامك من قِبل أحد الذين أثقلوا كاهلك بالنقود، ليس بالضرورة ليرفع عنك أثقال الحياة، إنما قد يكون المراد هو جعلك طوع خدمته مذ أن عرف بأنك ممن غدا وفياً حتى الثمالة لمن أغاثه في المِحن.
أن تحيا في اسطنبول يعني أن تعيش التناقضات بحذافيرها، وحالك حال شيطانٍ عفى عنه الرب والتحق بآخر فركونة من قطار الذاهبين إلى الفردوس، ولكن بالرغم من أنه ركب القطار وحجز مكاناً له بين ركابه، إلا أنه مع أصحاب البيوت والمزاجية  التي يتعاملون بها مع  المستأجرين، يحس الآدمي المأبلس بأنه ما يزال يعيش تحت رحمة جلاوزة القطار المحدقين به بعين الكارِه المتأهِب، ويصبح حاله كحال من كان محاطاً بقراصنة تتحين الفرصة لرميه منها في المحطة التي يريدون قبل أن يُكحل أعينه بمشاهد الفردوس.
أن تسكن في اسطنبول معناه أن ترى أمامك كل ما هو مبهر من الحضارة المعاصرة وبنفس الوقت قد تلتقي بأناسٍ من عصور الاقطاع والبكوات وحيث إن الحضارة التي تراها أمامك تغدو بهرجاً خارجياً لأن الجوف يحوي ما كان بالضد من الاكسسوار، ففي الداخل ترى العجائب من طرق الاستغلال والاحتكار والابتزاز، كما أن الوقائع التي تسمع بها هنا وهناك ستذكرك على الفور بالمدوَّن عن المدينة في الأيام الغابرة وخاصة الحكايات الاسطورية التي كتبت عن مثيلاتها “إشق سوقان” تحت اسم أساطير الأستانة.    
أن تقطن في اسطنبول يعني أن تتمثل وضع ابليس حين “أُلقي في اليم مكتوفاً وقيل له إياك أن تبتل بالماء”؛ فعدا عن المغريات القادرة على جر النبيل إلى مواقع الابتذال، وسوق الغرِ إلى أماكنَ كفيلة بجعله مستسلماً للشهوات، فالمدينة فيها من اللصوص ما يفيض عن حاجة بلدٍ بأكمله لعاهات المجتمع مِن السراق، وعندما تتزاحم مدينة ما باللصوص فهذا يعني بأن عليك الاعتماد على كثرة الأقفال في المنزل لئلا تتعرض للسرقة والإغارة على غفلة منك، ولكنك فوق ذلك لا تجرؤ على استخدام كل الأقفال لكي تستشعر الأمان حين تستسلم لسلطان النوم، وذلك لأن المدينة مهدَّدة كل حين بما هو أعظم من مداهمات كل لصوص العالم، وأعظم من اجتماع كل فرق مكافحة الإرهاب أمام بيتك، ألا وهو ارتجاج الصعيدِ أسفل أيَّ مكانٍ تكون فيه، والاحتمال الدائم للإرتعاد العنيف للأديم من تحتك.
كما أن فكرة التحضر الدائم لهزة الكرة التي تمكث على ظهرها تجعلك تتصور ذاتك في دورة الأغرار ـ ودورة الأغرار يعرفها كل سوري جُرّ إلى خدمة العلم ـ فعليك أن تضع أمتعتك وأوراقك الثبوتية ونقودك في حقيبةٍ جاهزة لكي تفر بها وبجلدك لحظة مجيء الزلزال، ولكي تكون على أهبة الاستعداد عليك اللجوء إلى آلية عدم الإكثار من الأقفال، لأن ساعة مجيء الرعدة الأرضية قد لا يفتح  فيها الباب المبالغ في إقفاله حباً بالأمان، وهذا ما يدفعك لعدم إحكام الباب وإغلاقه بالشكل المطلوب، ولكن عدم الإقفال الجيّد يعني أنك تعرّض نفسك لخطر اقتحام لصٍ ما لبيتك فيأخذ عندئذٍ كل ما أحضرته خشية وقوع الزلزال، فأنت والبيت ومقتنياتك إذن أمام خيارين متضادين وهو: إما أن تُغلق الأبواب والنوافذ بشكلٍ محكم لكي تحمي بيتك من اللصوص، وإما أن تجعل الباب في حالة الوسط بين الفتح والإغلاق لكي تكون على أهبة الخروج بسلام عند وقوع الواقعة، وفي حال أنك من باب الاحتياط فضّلت الخيار الثاني بما أن حياتك أبدى من أشيائك، فهذا لا يعني بالضرورة أن يمضي الزمن بك من دون منغصات، خصوصاً إذا ما طال انتظارك للرعدة الأرضية المفاجئة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…