زاكروس عثمان
خرج سپاسکو على سطح منزل زوجة عمه، وسرق من خزانه سطلين من الماء، عاد يلعب مع الطفلة، سرعان ما انتعش صغير الضفدع وهو يلهو بين الماء، بقي سپاسکو وافراد اسرته على هذا الحال حتى الغروب, تَنَفَسَ الناس الصعداء، مبتهجين بغروب الشمس يمنون النفس بشيء من البرودة، ولكن هيهات فالليل مثل النهار يجد في نفسه القدرة للتطاول على قطيع تركه راعيه في القيظ وذهب هو يتنعم بربيع دائم في باريس، النهار شواء والليل طبيخ، ليس هناك شمس او قمر فمن اين تأتي هذه اللفحات الوقحة المزعجة، طفح الكيل بالزوجة قالت: ئوووف ئوف… الناس الذين يهربون الى المانيا معذورون، اكاد اَهلك يا رجل، الوقت ليل فمن اين تأتي كل هذه الحرارة، الساعة الحادية عشر ليلا لا ماء ولا كهرباء، هرب الجميع الى سطح الدار، عَلَ الارتفاع يخفف درجات الحرارة، ولكن هواء قادم من جحيم الجنوب كان بانتظارهم، همس سپاسکو لزوجته: كل شيء يأتي من الجنوب يكون سيئا حتى هوائهم خانق.
الزوجة: وهل هواء شمالنا افضل، هو ايضا يَهبُ علينا ثقيلا وعنيفا، يكاد ان يلقي بنا على دروب هي ليست دروبنا، تارة يحمل الينا لفحات الجحيم وتارة يأتي بنسمات من الجنة، الرياح التي تكذب لا ارتاح لها.
سپاسکو: نعم شمالنا رياحه عنيفة وغامضة، كنت اظن انه يحمل الينا نسمة عليلة ترد الروح لنا، ولكن لا اعرف ماذا يدور في عقله، هبوبه محير نسماته متقلبة، لست متأكدا هل هو معنا ام ضدنا، صحيح انه يصد عنا رياح السموم، ولكنه ايضا يثير الزوابع من حولنا.
الزوجة: مشكلةُ رياح شمالنا هي اعتقادها ان الهبوب من حقها وحدها، فلا تقبل رياحنا المحلية ولا رياح تأتي من جهاتنا الاخرى، رياح شمالنا تصد سموم الجنوب، لكنها ايضا تكسر ظهر رياحنا الاخرى، وتلغي حقها في الهبوب، التنوع يا سپاسکو افندي ناموس طبيعي، والرياح التي تريد احتكار الهبوب لنفسها، انما تخنق الطبيعة.
سپاسکو: جهاتنا الاخرى لا بأس برياحها لكنها راكدة ايضا، انها بطيئة الإدراك عادة ما تَهب في مكان وزمان غير مناسبين، كنا نتوقع هبوب رياحنا المحلية، ولكنها اصيبت بالترهل والشلل.
الزوجة: جهتنا الشرقية هي التي علمت رياح جهاتنا المحلية التواكل والخمول، فأصبحت نسماتها بائرة، وجاءت رياح الشمال تزيح رياحنا بعيدا، كثرت رياحنا حتى بتنا من كثرتها نختنق.
سپاسکو: اعرف ذلك ولكن رياح الاخرين تكبس انفاسنا، وليس هناك متسع للجدال وتبادل الاتهامات، نحن في قلب الجحيم والمطلوب منا ليس ايجاد هواء جديد خاص بنا انما ننتظر من رياح جهاتنا الشمالية والشرقية وحتى من رياحنا المحلية الهزيلة ان تأتي لنا بنسمة قبل ان تخنقنا رياح الاخرين.
الزوجة: احيانا اشك ان رياح جهاتنا الشمالية والشرقية تهب علينا ليس لإنقاذنا من سموم رياح غريبة انما لتسلب منا اسرارنا التي تحمينا من الانقراض، الرياح التي يرسلونها الينا باسم الاخوة تعصر ربيعنا الغض وتجعله يحتضر.
زحفت الطفلة ثانية على صدر والدها انتزعت الموبايل من يده بعصبية, آآآ بابـ بـ با, سمكة صغيرة تهوى الماء, جسدها البض بات صفيح ساخن، لم تعد تتحمل الفرن الذي يشوي عامودا، الجميع يتبرم ئاخ… نحن نحترق ئووف… اننا نموت، فجأة سمعوا ما هو بالنسبة لهم اجمل نغمة في الوجود، انها انغام قطرات الماء تنسكب خجولة في الخزان، صاحت الفتاة: جاء… جاءءء… الماء… الماء جاء، نهض الجميع بحركة لا ارادية تاركين السطح، هابطين الى باحة الدار، مدوا الخرطوم، ونفخوا مسبحهم البلاستيكي بالهواء، جلس سپاسکو واطفاله في المسبح الصغير يرشون الماء على بعضهم البعض، يرطبون اجسادهم بمياه الصنبور، وخلال دقائق تنفسوا الصعداء وتخلصوا من لهب يشد حباله على اعناقهم، ها هم يلهون ويهدرون الماء، وقبل دقائق كانت القطرة بالنسبة لهم حسرة، بقيت الزوجة مترددة لم تدخل مسبح الاطفال، سيدة محترمة وعاقلة لا يليق بها ان تلهو مع اطفالها وزوجها المجنون، ناداها سپاسکو: تعالي يا فتاة اخلعي ثيابك وانضمي الينا وتمتعي، قالت مترددة: لا حبيبي لا هذا عيب انت مستهتر مجنون، جلست على حافة السلم تراقبهم، وهم سعداء بالماء يلهون ويصرخون، انها تشتهي ان تشاركهم ولكنه الكبرياء يمنعها، حمل سپاسکو الصنبور واخذ يرشها بالماء، صرخت: يا لك من رجل لقد بللت ملابسي، قال: ثيابك تبللت لم تعد لديك حجة هيا انزعيها وتعالي هذا افضل لك، المياه باردة ومنعشة، كأنها قادمة من ينابيع ارارات, قالت: يا ولد هذا عيب اخاف ان يلحظني الجيران، قال: يا بنت في هذه اللحظة انا متأكد ان كل واحد بالمدينة مشغول بنفسه، والجيران يفعلون ما نفعل، وكل زوج يرش الماء على زوجته واطفاله، هيا يا حمارة تعالي قبل ان تفطسي من الشوب، فما كان منها الا وان قفزت الى المسبح قفزة بهلوانية دون ان تخلع ثيابها، وكأنها كانت تنتظر الحاح زوجها في دعوتها الى اللهو معهم، بقي سپاسکو وزوجته واطفاله يلهون بالماء الى ساعة الفجر، هب نسيم عليل، تخدر الجميع وناموا حتى الظهيرة.
دقت الجارة باب البيت وقبل ان تلقي التحية، قالت لزوجة سپاسکو: بشرى بشرى بشرى… بنگينو اطال الله في عمره، اصلح محرك مولدة الكهرباء, اليوم ايضا مشنقة ولكن طالما بنگين موجود توجد كهربا، ويوجد مكيف ومروحة، يعني انتصرنا على سموم الجنوب، عاشت رياحنا الايكولوجية.
تعب سپاسکو من انهدامات يقينه، سَئمَ من نفسه واسرته وبيته، اخذ رُحى الخوف يطحن توقعات أبناء الجن الزاهية، شنكال جعبة متخمة بالخيبة، تجرع سپاسکو نبيذ قلق، غَضبَ من سماء لم يجد بين حجارتها التي لا تعد ولا تحصى موقعا لقريته، غَضبَ من صدفة صَنعت عمره, الاهل صدفة وكذلك الحارة والمدينة والبلد والقوم، تعب سپاسکو من اكذوبة الشتاء الربيع الصيف والخريف، هو مناسبة لم يرد ذكرها في تقاويم ميلادية او هجرية او صينية، ليست له حصة في الاعياد الكونية، حيث سرقوا منه ربه وشيطانه، وحملوه ربهم وشيطانهم، واتهموه بالكفر والإيمان, تعب سپاسکو من الإفطار والصيام، من جنيته، ومن كل الأشياء، بكلام آخر تعب من العالم.
الوجود الم وكذلك العدم، الخلاص سيف حده يقين وحده الاخر شك يجرح الحقيقة, سَئمَ سپاسکو من الحيرة ومن القرار، في دنيا القطيع لا معنى للصمت ولا للصراخ، الجاهل يصبح سيد العارفين، تعب سپاسکو من روحه ومن جسده، انه يتوجع من الفناء والبقاء، خرجَ من نفسه وسار دون هداية، ليتكرر نفس القرف الذي يشاهده دائما على جدران ملطخة بطين الزمن، صادف نفس الوجوه المحشوة بملح البلادة، سمع اصوات طالما سمعها وهي تسقط من حناجر مثقوبة لترتطم برصيف المعنى، وتتكسر الكلمات وتصير شظايا عواء نباح و خوار، شَمَ سپاسکو رائحة الخديعة ذاتها التي أنجبت آدم أبو التعب والألم، لكنه تابع المشي مغمض الاختيار، ليجد نفسه داخل مكتب شركة سفر، سأله الموظف عن المدينة التي يريد السفر إليها.
سپاسکو: اقطع لي تذكرة إلى أي جحيم يعجبك.
الموظف: ايها السيد البلد كله جحيم… اي جحيم تريد.
سپاسکو: وكذلك العالم…هيا اختر لي أية وجهة تعجبك.
احتار الموظف المسكين ثم رضخ للأمر، وناول سپاسکو تذكرة سفر، غادرت الحافلة المدينة، وغاصت سريعا في عتمة براري مكدسة بالرصاص ونظرات قاتمة تترقب الطرائد خلف التلال ، بعد ان فَقَدَ رأسه احس المذبوح براحة عجيبة، تخلص سپاسکو من مغناطيس يجذب اليه مسامير مشاكل، تمنى لو ان الرحلة تكون بلا نهاية، ثمة ملقط سحري يَسحَبُ شظية آسى من ذاكرة سپاسکو الملتهبة، وما كادت دقائق تمضي حتى راح في نوم عميق، انفصلت الحافلة عن الوقت، وغدت المسافة لهفة شيقة لطفل يمد يده الى تفاحة في اعلى غصن على الشجرة، فجأة سمع سپاسکو ارتطام مهول، ااها… السائق ايضا كانت له اصابع ملتهبة هرب منها الى غفوة، فانقلبت الحافلة، نجا الركاب جميعا إلا سپاسکو وجد نفسه ميتا خرج من تحت الحطام، سار قافلا الى قبره المفتوح، اما من نجا من الموت فلم يقوى احد منهم على الحراك.
عاد سپاسکو الى البيت… وفيما هو يفكر برحلته السحرية، عادت الكهرباء ايضا، باشرت الغسالة رحلة العذاب، عليها ان تغسل ما تراكم من غسيل طيلة ثلاثة ايام، اخذ البراد يصدح من جديد بعد سبات طويل، بدأ المصباح ينهض من غفوته، فيما طنين المضخة وهي تسكب الماء في الخزان يضفي مسحة موسيقية على المنزل، ورغم ان هذه الرفاهية لن تدوم اكثر من ساعة، الا انها كانت تكفي ان تعيد القرية الى نسمات نيسان العليلة، بقي سپاسکو ساهما الى ان ايقظ المطر عبق الارض بعد اول هطول، سَمِعَ شحرور صحوة يغرد في خاطره، شَمَ زيزفون السكينة في جوارحه.
بالت السماء وفاض جودها في شوارع عامودا النائمة مياه و طمي، حط خفاش مبلل على مدارك سپاسکو، وظل ذاك الطنين في اذنه اليمنى على حاله، صَفرت الغسالة، قفزت زوجته من الفراش مسرورة بإنجاز الغسالة لمهامها الوطنية والقومية، قامت بنشر الغسيل وعادت الى النوم، توسل جهاز التلفزيون الى سپاسکو ان لا يُشَغله، أخبار دول الرماد هي هي جديدها مثل قديمها قَرَف في قَرَف، انصرف سپاسکو الى اللاپتوپ تَفَقَدَ بريده الالكتروني، وجد رسائل كثيرة وصلته بالأيام الماضية، إلا انه قبل أن يطلع عليها تلقى اتصالا من روكسانا: هيه ايها المجنون ظننتك مقتولا اين كنت غائبا طوال هذه المدة.
سپاسکو: كنتُ هاربا من أشلاء نظرات في أعين قتلى تسأل عن راس الخيط.
روكسانا: رأسُ الخيط… سوف لن نعثر عليه ما لم نستعين بأعين المبصرين وحكمة العميان.
سپاسکو: مبصرونا وعمياننا كلهم من نسل نفس الكلبة التي تهز ذيلها لكل من يلقي لها عظمة، ليس بينهم كلب يحمل هَمَ رأس الخيط الضائع.
روكسانا: دائما لدينا مبصرون وعميان يبحثون عن راس الخيط بصدق، وكذلك كلاب كثر بيننا يَنبحون على اصحاب البصر والبصائر، دع الكلاب تنبح وفتش عن راس الخيط بعيدا عنهم.
سپاسکو: مصيبتنا الكبرى ان القوم يَعبدُون الكلاب، ويكرهون من ينسج لهم ثوبا يستر جسدهم العاري.
روكسانا: هذا هو رأس الخيط الذي نفتش عنه، علينا ان نقنع القوم برجم الكلاب.
سپاسکو: اخاف ان يرجموك انتِ، قومك يتخذ الشمس الها ولكنه يركع للعتمة، شعب عجيب يحارب لأجل البقاء، ويسير طائعا خلف كلاب تقوده الى الهلاك.
روكسانا: الى هذا الحد انتَ غاضب من القوم، عليك ان تفهم ان القطيع جاهل، والجاهل لا يعرف اين تكون مصلحته، ان غضبت من جاهل فما الفرق بينك وبينه اذاً.
سپاسکو: هناك شيء فينا اشد فتكا من الجهل، انظري الى القطعان في الجوار انها اكثر جهلا منا ولكنها وصلت الى طريق النجاة.
روكسانا: ثمة دودة تأكلنا من الداخل، لا خلاص لنا منها غير المعرفة.
سپاسکو: بَقَيتُ اجتر العتمة طوال النهار، وفي المساء اشعلتُ شمعة البكاء ظلت تذرف كمدا، وفي اخر رسالة كتبتها لكِ اضعتُ عيني، حين هَربتُ الى ظلك تعثرت روحي مسافة لا نهائية.
روكسانا: لا تنسى انني ايضا اضعت عيني في اول لقاء بيني وبينك لستُ نادمة، ولكن علينا ان نُبصر من جديد، هناك كوردي يتيم منتوف مغلوب على امره يحتاجنا، لمن نتركه بعد ان فَقَدَ في الحسكة ابنته، ابنه، اخته، اخاه، امه و اباه، افتح عينيك لترى دم مقاتل يجري في كل زهرة حول القرية، الا تسمع نشيج المنفيين خلف ابواب بيوتهم المهجورة، الا تحس في صمت البلابل عذابات لاجئ مشرد مفقود.
سپاسکو: تمكن مني القهر واليأس لم اعد متأكدا هل انا غاضب من مسكين سرقوا منه كسرة خبز وسلبوه ما يستر عورة كرامته ام انني اشفق عليه.
روكسانا: لا تكمل… انتَ حزين على من قايض بيته بخيمة، واستبدل وطنه بمخيم، واختزل احلامه في نيل حق اللجوء، وحدد مصيره بحق الإقامة ونيل الجنسية.
سپاسکو: افكر بمن تنازل عن ذاته، و خرج من جلده، خاسرا مهزوما، بعد ان طمسوا صدى الانسان في اعماقه.
روكسانا: خوف يغمض عقولهم يسيرون الى الفناء، لا يوجد من يقول لهم تمهل .. توقف .. انظر الى خلفك برهة الى امامك برهة، لترى ان من اجرم بحقك هم شلة عاهات يتاجرون باسمك.
سپاسکو: كوردي موات، الى متى يسمح لهم ان يركلوا مصيره، اما آن له ان ينهض ان يتحرك، ما يرعبني اكثر ان اجد نفسي مجبرا اسير مع القطيع الى الفناء.
روكسانا: قل انك تمزح… انتَ لا تقوى على الرحيل.
سپاسکو: صحيح… ولكن اليأس يجعل المرء يقوى على كل شيء لا تنسي زوجتي، بعد ان غادر الاهل والجيران، هي ايضا بدأت تردد في مسامعي اسم المانيا.
روكسانا: ليكن بعلمك ان سمعتُ يوما انك هاجرت سوف انيك امك سأقتلك، تبا لك أفسَدتَ علي ليلتي.
قطعت روكسانا الاتصال وهي حزينة غاصبة، تقول لنفسها: يبدو ان الوضع ميؤوس منه تماما، والا ما خطر الرحيل بذهن سپاسکو المجنون، ماذا يجري بالضبط، نحن من قطع الطغاة الهواء عنا جيل بعد جيل… ولم نبارح ديارنا، وحين انكسرت يد الجلاد، وهَبت رياحنا بدأنا نشد الرحال، سپاسکو الذي بالأمس فضل جحيم السجن على فردوس الغربة بات اليوم يفكر بالرحيل بعد تحطمت السجون، اية كارثة هذه التي تجعلنا نهرب من بعضنا، ربما الحرية لا تليق بنا، تبا لنا… تبا … تبا، اشتعل جسدها غيظا، قالت لنفسها: ويلي… ويحَ نفسي ما لم تكون القرية غدي وأمسي، ويلي ما لم يعانق شمسها مسامعي، كلما جاء المساء وتاقت إلى سپاسکو نفسي، مسكينة نفسي تدري مصابي وادري مصابها، كيف اغادر واغلق الباب خلفي، تناولت روكسانا حبيتي پنادول، والقت بنفسها على الفراش، حتى تقطع التفكير بأي شيء، اخذت من خلال النافذة تُحصي النجوم، وحين وصلت الى العدد 2014 امتلئ راسها, داخت ونامت.
لم يفلح سپاسکو في إحصاء النجوم، ربما لأنه امتنع عن تناول الپنادول، انقطعت الكهرباء غلبه الارق، اخذ يشاكس نفسه… يخاصمها… يعاتبها.. ينسلخ عنها… يغادرها، كوكب يدور في افلاك الحيرة، مذهولا تائها يقف على بوابة الانتظار، يذوي سريعا يندثر بلا قرار، هدأت صهارة الخلق… بحار… مجرات وجبال، استقرت الأكوان دفئا يبث الحياة، لكن قرية الجن بقيت منصهرة في نفس سپاسکو، لا تهدأ لا تفتر لا تركد لا تنام تظل متقدة أبدا في وريده تعانق دمه، وهج يضاجع أنفاس الدهور الا انها عاقر لا تحبل.
هاجر اصحاب الدار وتركوا خلفهم فراخ السنونو معلقة بسقف الاسى تزقزق في عشها، سمع الابوان نداء فراخهما في اللحظة التي سقطت قذيفة تركية فوقهما، بقيت الفراخ تزقزق إلى ان ماتت جوعا في عش الانتظار، صعد النمل مخيلة سپاسکو يقتات على جثث السنونو، فيما قطط سمينة في باحة حقوق الانسان تتربص عصفور مشغول بحبات الحنطة، ناموس يرتعش منه الفكر رعبا، الوجود سر مقرف غير قابل للتفسير.
سپاسکو غائب عن نفسه، تمثال ممدد على الفراش لا اكثر، وحدها امواج الخابور تَعِبةَ تدفع بنفسها جهة الضفة اليسرى، مخافة ان يُمسك بها عساكر الخلافة الرابعة الذين قبضوا على الضفة اليمنى، النهر يسترق السمع لحديث الريح الى الحشائش، خناجر ترقص على الجسر، تَعبٌ يسأل هسيس الزرع عن سر كماله عله يحمل رسالة مليكة الجن, لكن الريح صام عن الهبوب, الحسكة تحت مرمى البادية، جراد قادم.
سمع سپاسکو جلبة بالخارج، اُناس يصرخون… سيارات تخرج من عامودا واخَرَى تدخل اليها، انقبض قلب التمثال نهض خارجا الى الشارع، خفافيش الدولة الاسلامية تحوم حول اقاليم الروح، ابناء الجن ينزحون، سأل سپاسکو نفسه: هل افترست افاعي الرسول الحسكة.
جيش الله يطلب دماء الكورد، حفيد ارطغرل يقود عربان… تتار… مغول، خفاش في قلب السلطان، شيخ الاسلام ينادي في المساجد: حيا على الجهاد، حمار لبى النداء توقا الى حورية، صعاليك احتشدوا قادمين من القاصي والداني طمعا بالغنائم، ومن خلف البحار جاء مهوس بقطع الرقاب، امرأة شبقة تطلب الجِماع ممنوع عليها معاشرة الرجال، غادرت صحارى الكبت هربت الى فتوى نكاح الجهاد ليضاجعها جنود جيش الخلافة واحد تلو الاخر، النكاح في سبيل الله جهاد.
خفافيش الله تمتص زيت الارض، جراد الرسول يقضم خد الخابور الايمن، كلاب السلطان عينها على خد حسكة الايسر، تريد زيت احمر.. تريد كبد الكورد ان ينزف، بالأمس جاهد محمد فزرع الموت ونهب البستان، واليوم الله يَغرَقُ في دم الكورد، جيش البغدادي يسرق الفتيات، احفاد الجن يفسدون حلم الخليفة، السلطان يقول: لا يوجد كوردي جيد، حلال ذبح المتغطرسين حلال، كورد اشرار يحاربون دولة الله.
فتحت مدائن الجن ابوابها للقادمين من الحسكة، قدمت لهم الخبز، لم يقبل المتغطرسون ان تكون المدينة شنكال اخرى، رن جرس الهاتف بصعوبة، رفع سپاسکو السماعة سمع صوت صديقته روزا تخبره: الجراد عبر الجسر، نحن داخل البيت والقذائف تفسد علي سماع ناقوس الكنيسة، الشباب يحرسون الحي، والمتغطرسون يقاتلون بشراسة، أمي تطبخ البرغل، طلب سپاسکو منها ان تغادر وتأتي الى عامودا، قالت: لمن اترك البرغل، انا باقية وان دخل الجراد الى الحي سوف اقاتل، لن اقبل ان يأخذوني سبية، اخبرها سپاسکو ان المتغطرسون انطلقوا من قامشلو، عامودا، درباسية، سري كانيية، وقبل ان يكمل حديثه، سمع عبر الهاتف دوي انفجار وانقطع الاتصال، لم يجرأ ان يسال نفسه: هل نجت روزا من القذيفة ام لا، انطلق الى الحسكة محملا بشظايا القلق، موجة قاتمة تحيل مدن الشمس الى مقابر، هناك جني متغطرس في قلبه ثورة وعلى لسانه اغنية خضراء، يقف وحيدا امام طوفان يأجوج ومأجوج.
على الطريق تدحرج قلب سپاسکو حافيا، تاركا خلفه ما تكدس من ترهات في مكاتب الاحزاب في عامودا، من فَقَدَوا الحياء يحكون قصص ميتة، كَذَبة يُغطون إفلاس السكرتير بفنجان قهوة، تذكر سپاسکو انه مَرَ ذات مرة من استنبول مرغما، وجد هناك قطيع من كلاب قريته، بينهم كلب عجوز يمد لسانه من فمه مسافة شبرين، ينبح على اهله كي يمن عليه سلطان اللصوص بكسرة خبز، النباح لغة زجاجية تملئ حذاء العقل شظايا خداع, تجرح التراب، ثم تتكسر امام لغة زهرة تنزف عبقا كي تبعد رائحة البارود عن القرية، الحقيقة لغة ترقص تتقافز وسط حقل اوجاع، سپاسکو ذاهب الى الحسكة تاركا خلفه لغة عفنة تفوح منها رائحة الضغينة ليسمع لغة عندكو.
صب سپاسکو غضب العشق على الاحزاب، حتى وجد نفسه على مشارف الحسكة، هناك شاهد بنات و ابناء الجن المتغطرسين مستعجلين يذهبون الى الرقص امام الموت، سألهم كيف يمكنه دخول المدينة، اخبروه ان الجراد عبر الجسر وان اقترابه من وسط المدينة خطر عليه، لكنه الح عليهم ان يدخل معهم، أخذوه برفقتهم الى حارة الصالحية، بنات وشباب متحمسين لا يصدقون متى يصلون الى خط النار.
السماء تأن من ثقل الرصاص، غيوم تدوخ من دوي الانفجارات، سأل احدى المقاتلات: هل ينجح الدواعش بدخول الحي، سألته: هل الزوابع تهز الجبال، طلبت منه الحذر، اوصله المقاتلون الى الحي، وذهبوا في طريقهم، اسرع سپاسکو بالذهاب الى بيت روزا، وقف مترددا امام بابها، يسأل نفسه هل صديقته المتمردة اصابها مكروه، لم يقوى على طرق باب امرأة دونها لا تكون الحياة حياة، امرأة توزع التفاح بالتساوي، تبيح للقطط ان تعاشر بعضها قبل شباط وبعده.
بقي سپاسکو واقفا على الباب، الى ان سمع من النافذة صوت روزا: هيه انت هيا ادخل قبل ان يبرد البرغل.