هيفي الملا
أنفاسٌ متلاهثة، قدمان يحملان بكل خطوة تعبَ عمرٍ بأكمله، درجٌ طويلٌ أتأمله من الأسفل، هل ازداد طولاً أم خطواتي قد شاختْ اقتعدُ درجةً مكسورةً بارزة الحواف، أضحكُ بصوتٍ متحشرجٍ من البكاء، صورةُ اختي الكبرى وهي تحاول عبثاً الإمساكِ بي لتهذيب شعري المنذور للريح، كم كرهتُ أسنانَ المشطِ العابرِة بقسوةٍ في فوضى شعري المتروك المتشابك ، صغارٌ يلعبون يتضاربون يهرشون رؤوسهم، نسوةٌ يتبادلن أطباق الطعام الشهية تلك التي طبخوا قلوبهم معها، ففي هذا الحي الشعبي والركن الجبلي، القاطنون يضعون قلوبهم على مائدة الطعام. تتوالى الصور في ذاكرتي ، بل تنشبُ مخالبها في عنقي، فتاةٌ تدخل للبيت هائجةً بقامتها الطويلة فتشعلُ المنزل حركةً ونشاطاً وحباً وهي تصرخ هاقد عدت ، شابٌ صغيرٌ كَبِرَ قبل أوانه يشبهني في ملامحه، امتهن التضحية قبل أن يدرك معناها ، وصغيرٌ ببشرةٍ سمراء ونظرات مترددة، أتذكره بقميصهِ الأصفر المموج بسفنٍ بحرية، قلقٌ وكيف لا، وقد سجلناه للتوِ في سنتهِ الدراسية الأولى، سمراءٌ هادئة ببشرة ناعمة، صامتةٌ، وحده وجهها يعكسُ ماتريد البوح بهِ، رقيقةٌ كندى الصبح، يداها تمسدان شعرها المسرح الأملس طيلة الوقتٍ،
تسبقني خطواتي التعبة وحمولة سنوات طويلة، لأكون وجهاً لوجه مع الباب المقصود ، يدي اليسرى تديرُ قبضةَ الباب الحديدي فينفتح، لتتدلى أعناق الياسمين ذابلة، ولكنها حية.
صوتُ رضيعةٍ تبكي دون انقطاع ، وأمٌ تهوّدُ بصوتٍ مخنوق . Lori lori keça min lori…..
فسحةٌ مهملةٌ تُفضي لغرفتين، غرفةٌ صغيرةٌ تتسعُ مساحتها لسريرٍ وطاولة دراسة فقط، ولكن فضاؤها الواسع يتسعُ للكثير من الشقاوة والذكريات، ولا أنسى عندما زارنا جدي القادم من ريف الدرباسية إلى دمشق في حي ركن الدين، ومن كثرة ماكنا نتهامس فيها نحن الأخوة والأصدقاء سمّاها غرفة الأسرار وبقي اسمها هكذا، استأذنتُ أصحاب الدار الوهميين فالبيت متروك للفراغ، أن أجلس فيها وحيدة لدقائق، أتحسسُ الجدران والزوايا واسمنت الأرض ، هنا كنتُ ألصقُ أوراقي والمعلومات التي كان يصعب حفظها، هنا تحديداً بنود اتفاقية، وهنا الصفات المناخية للأقاليم، وهنا قصيدةٌ صعبةُ الاستظهار ،. الذاكرةُ النشطةُ تشقي صاحبها حتماً، وأنا ذاكرتي سخيةٌ حد الألم بل معملٌ ينتج ألاف الصور و الحكايا ، هنا كانت صديقتي تشاركني الدراسة والنوم والأكل، ونحن نتحضرُ بجهدٍ محمومٍ للشهادة الثانوية، ابتسمتُ بينما تعبرُ مخيلتي صورةُ خزانِ الماء الذي فاضَ يوماً وسالتْ المياهُ تحتنا دون أن نشعر، في مساءٍ تمكنَ منّا أرق الدراسة المتواصلة.
غرفةٌ أخرى تجاورُ غرفة الأسرار، مهملةً ومعتمةٌ كما كانت، تحتوي مؤنة الدار و الكثير من العباءات الخليجية تلك التي كانت أمي تطرزها بخيوط القصب، هذا العمل الذي حفر الأثلام في وجه أمي، وهي تحفر بإبرتها لأجلنا
ثلاثُ درجاتٍ تفضي بي إلى المطبخ، أفتحُ بابه القديم ، تلطم وجهي الصور كخفافيشَ هاربة ، مساحةٌ صغيرةٌ بسيطة برفوفٍ خشبية متآكلة وموقد غاز قديم أعدت عليه أمي زادنا الذي كانت تطهوه بدموعها التي كانت تخفيها عنا، وهي تغني نادبةً حظها في فقدان شريك حياتها وجسارة مسؤوليتها تجاهنا.
درجٌ آخر يفضي إلى الطابق العلوي، صوتَ ارتطامِ السجادة بالدرج الاسمنتي لنفضها من الغبار، هذا الارتطام الذي كان كفيلاً ليوقظَ كل نيام هذا الحي الجبلي البسيط.
وهذهِ إطلالةُ بيتنا الدمشقي الجبلي، دمشقُ كلها ممتدةٌ أمامي كحمامةٍ تفردُ جناحيها، رائحة الهيل والياسمين، الأزقةُ والخاناتُ العتيقة ، الأحياء الشعبية والمباني العالية وكلية الآداب وسرافيس الدوار الشمالي حيث حفظتُ ملامح تلك الطرق كلها ، سوق الحميدية و الخانات العتيقة والجامع الأموي، يالا هذه المدينة المغروسة في خاصرتي كالسيف المغروز في عنق التراب!
من خلفي يتربعُ قاسيون الذي اهتزتْ الدنيا وتزلزلتْ ولم يميدْ، ماتَ من مات وتهجّرَ من تهجّر، ولم تهزُه صوتُ طائرةٍ حربية ولا ضربة مدفع، تهشمتْ القذائفُ على وجهه وهو شامخٌ ثابت شاهدٌ على الحب و البساطة و العفوية في هذه الأحياءِ البسيطة.
على هذا الحائط وفي هذه الزاوية تحديداً كنا نضعُ وعاءً كبيراً نغمسُ فيه قطعَ الثلجِ الكبيرة لأمسياتِ الصيف التي كنا نتسامرُ فيها ثم ننامُ في هذه الفسحةِ الممتدة نتأملُ الشامُ ونجومها وننسللُ تحت أغطيتنا.
غرفتان متجاورتان في هذه الفسحة الممتدة ألجُ الأولى، هنا كان فرشُ أمي الكثير و الموضوعِ بعنايةٍ وخطوط مستقيمة قابلة للقياس، اللحفُ السميكةُ ذات الوجهين وجهٌ كقلب الثلج ، والوجهُ الأخرُ من قماشٍ كنا نسميه أطلس متعدد الألوانِ البراقةِ، فنسمي اللحاف بلونهِ ، كم تعبتْ أمي في غسلِ الصوف وجزهِ وصنع هذه اللحف التي لا أتذكرُ إننا استعملناها إلا بوجود ضيفٍ غريب، وهنا الخزانة جوزية اللون احتوتْ ملابسنا جميعاً، خزانةٌ واحدة اتسعتْ كل ملابسنا وكتبنا وأغراضنا المبعثرة، كانت واسعة بقدر ضيق الخزانات الواسعة المتفرقة التي تحوي ملابسنا فُرادى الآن.
استأذنُ أهلَ الدارِ لأدخلَ الغرفة الثانية، إبرةٌ تنغرسُ فجأةً وبقسوةٍ في جوفِ جرحٍ ينزُ بالصديدِ، أنا الطفلةُ العجوزُ هنا كنتُ أتمددُ أمامَ التلفاز وأرفعُ قدمي على طاولته فتقدحني أمي، هنا الأفرشةُ المرصوصةُ كأسنانِ المشطِ، ماكان لبردِ الشتاءِ حينئذٍ أن يتسللَ لضلوعنا ونحن نتوسدُ أذرعَ بعضنا البعض، نعم نحن صغار الأمسِ، تائِهو اليومِ في بلدانِ الشمس والضباب والغياب.
أسندُ ظهري المتعب على هذا الجدارِ الذي تبكي شقوقه، والفرق إنَّ الشقوقَ الآن في روحي، ماذا ينغرزُ في ظهري؟ آه هذا المسمارُ الآثمُ في خاصرةِ الحائط – خاصرتي.
لِمَ لم ينزعوه بعد ! ليبقى شاهداً على أكياسِ المحلولِ المعلق عليه، المحلول الناري الذي كان يمشي في أوردةِ أبي فترتدُ متورمةً وتقتل كل شيءٍ فيه إلا السرطان اللعين.، ونحن نبكي حوله مذعورين، وهو يتقيأُ الحياة.
هنا كان ممدداً أربعين يوماً ، جسدٌ يذوي كما الشمعُ، وأمي تذوي،، من ينزعُ من روحي صورتهُ عندما تناولَ أصابعَ أختي الرضيعة في المهد، حاولَ تقبيلَ تلك الأصابع الطرية ولكنها لم تصلْ إلى شفتيه، أظنهُ كان يعتذرُ منها عن عمرها الذي ستعيشهُ دون أن تنادي أبي، دون أن ترتمي بدلالٍ في حضنه، وهو يصلُ للمنزل محملاً بِما تشتهيهِ ، لن يكونَ معها ولن تحفظَ ملامحهُ إلا من بعضِ الصور.
هاهو المحلولُ يعاندُ سيره في أوردته، وهو يتلعثمُ بكلماتٍ غير مفهومة، يحاولُ جاهداً أن يكتبَ جملةً قصيرة، عنوةً فككنا طلاسمها، هذا الجسدُ الأنيقُ والشعرُ الأسودُ كالليل، كيف يتكورُ ضعيفاً محمولاً على الأكتافِ، لمشفى المواساةِ التي لم تواسي وجعنا، لم تواسي بنفسج أعمارنا الصغيرة، ليعودَ بعد صرخة إلينا، ولكن هذه المرة ممدداً دون حياة.
كانوا يحملون النعشََ، يسيرون ببطءٍ شديدٍ، وأنا أسيرُ وراءهم ولا أبكي، أعتقدُ من وقتها أصبتُ بلوثةِ الحزنِ والصمت .
نحنُ النساءُ الصغيراتُ،حباتُ تلك القلادةِ التي حملتها أمي تعويذةً في رقبتها، وكافحتْ وحرثت بالإبرةِ وناضلتْ الوحشة وظنون المجتمع، حتى حررتها حبةً حبة، وهي تفتحُ لنا قنوات نمشي فيها فُرادى مطمئنين.
خرجتُ من ذلك المنزل الجبلي بأخرِ ابتسامةٍ بريئةٍ ككرةِ الثلج التي لطمتْ وجهي يوماً، ونحن نتقاذفُها مع الجيران ذات حبٍ وثلج، اتلمسُ روحي خشيةَ العطبِ، مازالتْ جميلةً رغم سوادِ الوشاحِ المُلقى عليها، والدموع مازادتها إلا شفافيةً كما الندى على ثغرِ الصبحِ.
على عجلٍ ألملمُ دموعي وضحكاتي وذكرياتي في جعبةٍ أُلقيها مُتثاقلةً على ظهري و أعود أدراجي.
هذا الدرجُ الطويلُ أنزلهُ بخطواتٍ واثقة متشبعة بعشقِ أمكنةٍ تسكننا ولا نسكنها، والدمعةُ توأمةُ الابتسامةِ تطهرُ وتعتقُ المشاعر المقيدة وتغسلُ الروح المكلومة من الأردان. واثقة بلهفةِ وخفةِ فراشةٍ رقصتْ حول النار، احترقتْ حوافها ربما، ولم تحترق.
أمضي، وأنا ابتلعُ صدى طفولتي في هذا الحي الجبلي، وعصاي ترسم خلفي خطوطاً مبعثرة لعودةٍ محتملةٍ بعيدة ، وحدهُ المسمارُ المُقتلعُ من ذاك الجدار ينغرزُ في ظهري كلما تحركتْ، عدلتهُ ومشيتْ كما ينبغي لخطواتي أن تكونْ…فكانتْ……….