إبراهيم اليوسف
ما الذي حدث لنا، ومن حولنا، حتى يتغير كل شيء هكذا؟
ربما إن مكونات السؤال المركب– أعلاه– كانت جد ضئيلة، تكاد لا تشمل إلا بعض مفردات معادلة كيميائية حقيقية، بيد أنها مفتوحة على عالم لامتناه، يعيشنا، ونعيشه، يتعلق بهذا التغيير الجذري الذي بتنا شهوداً عليه، وشهداء له. إذ إن التغيير الشامل الذي جرى، ولما يزل يجري، لم يعد محصوراً فيما يتركه في خريطة المكان، وحضور الكائن، بل في سايكولوجياه، ورؤاه، وطريقة تفكيره، وذاكرته، وخياله، وعلاقته بعالمه الجمالي، وإن كان بعض ذلك لايزال – هو الآخر – في طور الاستكمال، ضمن دورة الإبداع الموازية، أو المتوائمة مع دورة الحياة كلها!
من هنا، فإن تلك الرتابة السقيمة، طالما رأيناها مهيمنة، في إطار رؤية مكتملة، أو مدرسة منجزة، كإحدى محن العملية الإبداعية في المجالات كافة، وهوما جاءت الثورات التي اندلعت – على حين صرخة أو شرارة- كي تبين لنا أننا لكم كنا في حاجة إلى مجازفات الخروج من اليوتوبيات التي ظللنا نحشرج فيها، مكتفين بتكرار صرخاتنا البلاستيكية، المكررة، في حضرة ظلالها، من دون أن نجري أي تغيير يرتقي إلى مستوى الظمأ الجمالي المطلوب..!
في تشخيص ما يجري
ثمة مشكلة كبيرة بتنا نعاني منها، عندما بتنا نرى أول سقوط غير حر للتماثيل التي كانت مصدر رعب بالنسبة إلينا، في هذا العنوان من العتمة أو سواه. ربما أن ما سقط منها، لم يكن كافياً كي تندلع مساحة الضوء المتوخاة، من مساربها محكمة الإغلاق، وتزيل هذه الهياكل التي طالما جعلتها ترتد لئلا تتجاوزها، وتصل إلى الجهة الأخرى، تستعيد تحقيق قانون الطبيعة الذي خلخل توازنه جشع الكائن، وهو يحتطب كل ما حوله وقوداً لأناه، لا فرق في ذلك بين كائن وكون. إنه نتاج حالة فصام القاتل عن محيطه، والتصاقه بلحظته الداخلية، من دون أي تنسيق مطلوب مع الآخرين، بالرغم من أنه-هو الآخر – منهم، لا امتياز له عليه، إلا عبر ربقة القوة التي يستخدمها، كأحد أهم مفردات معجم العنف ضدهم..!.
لطالما لقيت الشرارات التي لا تفتأ تتوالد، ضمن دورة الحياة، مصيرها، بسبب نفخة، مُطفِئة من فم متجبر، أو سطوة خوف، أوجده كإحدى متلازماته الكثيرة، حتى يظل متسيداً غوايات عرشه الهزيل. وقد كان من شأنها أن تذوب أية عتمة طارئة، بينما ثمة من ينتظر طليعة ومحات الضوء، في الجهات الأخرى، بعد طوال ليل من سقام، ومعاناة، وألم، وانتظار، من دون جدوى…!
لم يكن يعوز أحداً البتة من الجمهور المعني، المنتظر، بالرغم من هيمنة كوابيس آلة الرعب أن يقف في مواجهتها، ويقول ما يريد، بهذا الشكل أو ذاك، أو حتى أن يترجم هذا القول على نحو عملي، قبل أن يلقي مصيره المحتوم، غير أن هناك ما كان يجعل من هذه العناصر كلها، ناقصة، غير ذات نفع، مادامت هاتيك الآلة قد وزعت أدواتها، كما تقتضي ديمومتها- وهي الموقوتة في الأصل- إلا أن لا شيء في النهاية يظل كما هو، وفق سنة سيرورة الكون ذاته، وهو ما جعل الصرخة الفاصلة تغربل الأصوات، ضمن تصنيفين اثنين، لا ثالث لهما: القاتل أو القتيل؟. القاتل أو الضحية؟ القاتل أو الرعية وهي في انتظار أدوار دفع المترتب عليها زوالاً، مادامت خانعة، ذليلة، مستكينة!
سطوة العجز والممثل في دوره المستعاد
إذا كانت هناك ثمة دورة، يراهن حامل نار الحكمة الأزلية عليها، فإن هذه الدورة لا تقدم – وفق ضرورات مسارها – نتيجة واحدة، مستنسخة، كما تفرضها لغة الكاميرا التي من شأنها ترك مالا نهاية لها من الصور الفوتوغرافية التي تدل على أصل واحد. هذه الثيمة جعلت الشكوك لدى المستبد بقانون التجديد كافية لمواصلة جوره، وبطشه، وفتكه بالآخر، بما يعينه – هنيهة – كي يطمئن- ولو على نحو منقوص- على ديمومة سطوته..!.
الممثل على المسرح هو ليس نفسه بطل المسرحية الأول، وهو ليس من جسد الدور من قبل، أو من بعد، كما إنه ليس هو ذاته في الأمس، أو الغد، وحتى في لحظة ما قبل اللعبة، وإن كان ثمة كيمياء – قليلة أو كثيرة – تمارس سطوتها عليه، وهو في لحظة إذعان، إنها كيمياء البطل الأصيل-في سلبية سلوكه أو إيجابيته- بحسب عقد مؤقت، ينتهي مع إسدال الستارة.
وليس من قاتل – هنا – إلا لأن الضحية قد تنازلت عن روادعها. وإلا لأن الجمهور قد تنازل عن روادعه. حيث يغدو الضحية شريك قاتله في تسهيل مهمته، كما إن الجمهور شريك أكبر فيما يدور، ولا يمكن له – وهو يصفق لنظرة الضحية الشزرة بعد قطع رأسه إلى القاتل – أن يكفر عن خطيئته، مالم يوقف القاتل، قبل فعلته النكراء.
تشكيل الفضاء الجمالي
أجل. ثمة ما يتغير من حولنا. ثمة ما يتغير من حولنا. إلى تلك الدرجة التي يكاد فيها شيء ما يشبه نفسه قبل دخوله معادلة – الثورة – بعيداً عن المرتبة المستحقة، في فضائيها المتناقضين، على محوري: الجمال والقبح، حتى وإن تواصلا عبر خيط وهمي، من خلال عين راصدة ما، بما يرفضه الواقع، ويرفضه الفن والإبداع، قبل أن يتطهر، ويستعاد، عبر كولجة ما، وهو أمر آخر، لا مكان لتقويمه هنا الآن..!.
إذاً، سمة- اللاثبات – هي التي تخضع لها دورة الحياة في مداها الشاسع. وقدت بدت لنا في أوجها، بعيد هذه التحولات الهائلة، كي نكون على بوابة تحولات من نوع آخر، تحولات لاواقعية، فحسب. تحولات لا معيشية، فحسب. وإنما تحولات فنية، تحولات في نبرة صوت أي منا: كآبة أو تفاؤلاً. حزناً أو فرحاً. كابوساً أو حزناً. بل وأغنية أو فيلماً سينمائياً، أو صورة فوتوغرافية، أو قطعة موسيقية، أو سرداً، أو شعراً، أو ضحكة أو ابتسامة!؟
كل شيء – الآن – في طور التغيير. لا شيء مطمئن إلى هيكليته، البتة، وهو ما يرتب على كواهلنا أن نستقرىء هذا التغيير في كل التفاصيل التي نستقرئها، ونستنطقها، لأننا أمام سنة لا مناص لا مناص منها. ولا مكان لاستنساخ الأشياء، حتى وإن كان القاتل في لحظة وهمه يستعيد كل ما أوتي السابق عليه من فتك، وبطش، أو دمار، وذلك لأنه لن يبقى إلا عبارة عن أداة في مختبر كيمياء الزمن وفيزيائه!
لا أحد – إذن وإذاً – يستعيد قابيل الأسطورة، في قابليته، وقابيليته، إلا الأسطورة في الدواخل، وهي تستدرجه إلى حقل الجغرافيا ونبع الدم، من دون أن يتجرأ إلا أن يكون مجرد ممثل جديد، مشلول القوة، أمام هدير الحراك، وهو يحول معجم الحياة والفن-على حد سواء- إلى ساحة حبر كبرى، مازلنا نقف في حضرتها ضحايا، عاجزين، في انتظار لحظة الخلق التي تنتج من مزاوجة الرؤى والواقع. الحياة والإبداع. الحلم والفعل، كما يليق ببشر أسوياء ندعي أننا نحن من نجسدهم في أدوارنا الجديدة التي لما نبدأها بعد!