تصريح شامل

إبراهيم محمود

هوذا  دمي
افحصه جيداً 
دمي خال ٍ من الرصاص
ومن إشعاعات قانصة
لا يحوي جرثومة إفساد الهواء
أو تسميم الغريب
أو أي حمض مشبوه
دمي محرّرٌ من كل حساسية خارجية
مضمونٌ لمن يطلب عوناً منه
يقبل عقد تمازج صداقة مع أي كان
دمي تسكنه أحلام الطبيعة التي تدير نفسها بنفسها
خيالات الطيور التي تبني أعشاشها في الهواء الطلق
شقلبات أضواء النجوم البعيدة التي تقدّر نقاءه
ما عدا ذلك داخل حساباتك المغلقة
هلّا حاولت تفحّص سماواتها الصدئة؟
هي ذي  خلاياي وأنسجتي
افحصها قدْر ما تستطيع
إنها متوقفة على نشاط جسمي
تعرف حدودها وطرق عملها
خالية من العقَد والجراثيم المعهودة
من غاز الخردل ومرادفاته
والأمراض الجلدية
والتهاب العيون المدبّر
كل جسم غريب ومريب لا صلة لها به
إنه تاريخ مسجّل فيها عن الأهوال التي عاشتها وتعيشها
لو تقرأ ذاكرتها النازفة ستعرف الذين يستمرون في النيل منها
فقط لأنها لا تريد من الماء إلا صفاءه
من الهواء نقاءه
من اليد نظافتها
ومن اللسان حلاوته
ومن القلب لطفه
هوذا أنا
فما الذي تريد فحصه يا مقتفي أثري منذ عهود وعهود؟
وليس بيني وبينك إلا ما تعتبر صحوي كابوس نومك
ونومي قيامة عليك
يا لفظاعة أخماسك وأسداسك
وجهي بعيد عن أي قناع
ولم أضع نظارة سوداء يوماً
وأربّي ذقني أحياناً لضرورة الشغل 
ولا أتعطر كثيراً
لئلا أعكّر صفو مناخ روحي الطبيعي
وأنفاسي كما تشم هادئة ولا تنفّر غريباً
وأظافري مقصوصة لئلا تظن أنها تبيّت لأمر ما
ولباسي خفيف أبعد مما تتصور
وحذائي صنع محلّي
وأنام وأصحو 
وأرحب باليوم الجديد عادة
وليس من فكرة جانبية توتّرني
إلا من توتير تعرفه جيداً 
لا يدع حتى ظلي يسقر في مكانه
هوذا أنا
بيتي مفتوح على الآخر
أبوابي لا تغمض عيونها
نوافذي تصادق الهواء البعيد خارجاً
وضوء القمر
وتسمح للعصافير أن تمضي وقتاً في غرفتها
وتخرج على راحتها
لا أقفاص للطيور عندي
لا كلاب حراسة أمام باب بيتي
لا سواعد موشومة تشق طريقي
أخرج من بيتي ممتلئاً بالشوق إلى الخارج
وأضيف جمعاً هذه المرة:
الطرق التي تخرج عن مدينتي تحتضن حتى الذئاب
الضباع نفسها أنيابها مؤمَّم على سلامتها
نقدّم لها حصتها من اللحوم 
ونسمح لها في أن تلاعب صغارنا
ولها أن تدخل مدينتا وتخرج دون تصريح موسوم
وللثعالب أن تمارس بهلوانياتها على عتبات بيوتها
للصقور أن تجثم على أكتافنا أن نلمسها بسوء
لتشعر سماءنا بمزيد من الانتعاش
ولطيور الليل أن تقيم سهراتها على شرفاتنا
ليعيش الليل أحلامه ذات الصلة بالنجوم
ولكل نجمة حرمتها وحقوقها في السير والإضاءة وساعة النوم
شوارعها تظلّل سالكيها بالأمان 
ساحاتها مفروشة بالهدوء
حدائقها تنتعش لمرأى الأجانب وملء وجوههم ابتسامات فعلية
حدودها مضاءة بعبارات من نوع: أهلاً وسهلاً، و: مع السلامة
سهولها تفلتر ماءها ذاتياً
جبالها تستضيف النجوم وذوي النوايا الحسنة برحابة قمّة
أحجارها مهذبة تفصل بين الماء والماء
دون دق الإسفين حباً بجهاتهما
وديانها ماضية في سكَينتها..
لدينا من الهواء ما يكفي لأن يتنفس موتانا على تخوم الأحياء بعمق
ولدينا من الماء ما يكفي لأن تستحم مجرات التبانة كاملة فيه
ومن النار ما يفي غابات العالم أجمع لكي تتثاءب دفئاً
ومن التراب ما يكفي لجعل الصخر نفسه يزهر فيه
وفيما ما يكفي لمعانقة التماسيح شريطة أن تغمّد أنيابها
وتشاركنا السباحة في أحواضنا المتواضعة
وعلى أسطح منازلنا تبث الورود أريجها للقادمين والمغادرين
هوذا أنا
هوذا أنا
فدعني أمر
واطمئن إن أردت هواء نقياً لروحك
وصباحاً وديعاً لخطاك
ومساء رحباً لأنفاسك
ونوماً محفّزاً لأحلامك الخالية من الكوابيس
و:
حياة لا تشهد من الموت إلا الطبيعي فيه …!
فهل عرفتني حقاً؟!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…