إبراهيم محمود
كأنّي كنتُ نائماً، وكنتُ يقظاً في داخلي. أيقظني كاتبنا الكردي الكبير محمد سيد حسين الجريح بحب كرديته والمأهول بحب كرديته، وكل ما يصل بها، أي ” بافي رشو “( 1943-2022 ) والذي ودّع الحياة أو توادعا كلياً، في ” 12-2/ 2022 ” من نومي، أو هكذا تبيّنَ لي، بصوت صدمني برّنته التي دفعت بي، إلى استدعاء صورته الوسيمة قبل سنوات:
– ها بافي مالين ؟
وتكرر الصوت بالرنة الشفافة عينها، مع إطالة:
– ها بافي مالييين !
تنبهت على غفلة، رأيته بكامل أناقته، ومسبحته الصفراء” النارنجية ” بيده وهو يبتسم كعادته.
– بافي رشيييد !
كان النوم هو القائم بأعمال اللقاء وتداعيات الحوار والهموم العالقة والمشتركة !
– أنت.. أنت.. أنت بذاتك ؟
ابتسم وكنت أحاول النهوض.
– أنسيتَ يا بافي مالين أنني على وشك الدخول في عهدة السنة الثالثة من الرحيل” رحيلي أنا “؟
حاولت الابتسام، رغم الصعوبة، فكنت غير مصدق من ناحية، ولأن التحرر من ربقة النوم ليس سهلاً كما يظَن، وأنا أتأخر في السهر، من ناحية أخرى:
– لم أنس يوماً لأتذكر بافي رشيد ، حضورك دائم بلا غياب.
– وماذا أعددت لهذه السنة ؟
أحرجني بسؤاله والذي تمهلت قبل الرد، ثم قلت:
هناك دائماً ما يمكنني كتابته، وثمة وقت كاف بالنسبة إلي، وليس من إشارة إلى ذلك، ليكون لدينا عمل احتفائي وليس مجرد تقليد عادي، كما تعلم بافي رشو الغالي..
– لقد جئتك وأنا أعلم بمدى تفانيك فيما تكتب، وحرصك على التوقيت وما يمكن القيام به ..
هززت رأسي، وأنا غير مصدق أنه هو، كما لو أنني لم أكن أريد سماعه أو أن أتكلم أنا، إنما للنظر فيه، إلى وجهه الذي كان يشرق مع ابتسامته، والنظر أحياناً أبلغ وأشهى من الكلام .
ثم قلت، ما حاولت تذكره وتقديره:
– أوووه بافي رشو الغالي.. كما قلت، كلمتي التي تخص ما أشرت إليه سوف تُكتَب، إنما بخصوص التحضير لهذه السنة، وما يمكن أن يحدث، فلا علْم لي بشيء. سوى أن هناك أمراً آخر، قدَّرته بيني وبين نفسي، وهو أن أفراد عائلتك مستعدون دائماً لواقعة سنوية بِنوية ومنتظَرة كهذه، أي في يوم ” 12-2 ” من كل عام، لكن رحيل الغالية رفيقة دربك أم رشو ( 1950-2024 )، وفي ” 13-1 / 2024 ” غيّر من العلاقة.. ربما ومن باب التقدير، أنها، وهي تأتي إليك، وتسكنان إلى بعضكما بعضاً، وقبل مرور سنة ثالثة على رحيلك بشهر، أنتما نفساكما ستحتفلان بهذا اليوم، وستؤانسان بعضكما بعضاً، وروحاكما تحلقان في سماء قرية ” تل عربيد ” و” قامشلو ” وأبعد، وحيث يكون كل فرد من أفراد عائلتكما، مع محبيكما وأهليكم وأقربائكما وأصدقائكما…إلخ، وفي الهواء الطلق، ولا بد أن لقاءكما معاً سيكون له وقْع آخر، وقد تحررتما من الأوجاع التي دفعتما ثمنها كثيراً، رغم استماتة أفراد عائلتكما في السعي إلى التخفيف منها ما أمكن..
هوذا تقديري للموضوع يا أخي الكبير بافي رشو.. وسوف أنشر هذه الواقعة الغريبة سريعاً.
لم يتكلم، إنما مسح المكان بناظريه، كما لو أنه يريد أن يعرف محتويات غرفتي الدهوكية الصغيرة.. وحبات مسبحته بالكاد يُسمَع صوتها، تجاوباً مع رهبة الموقف.. ورأيته وقد استوقفته، كما قدرت كتبته الموضوعة أعلى مكتبتي في دهوك، وقريباً منها، كانت صورته ببذلته الهادئة بلونها، وعلى يمينها، مسبحته الصفراء ورأسها يتدلى كما لو أنها هي نفسها في حداد..
وصار يوزّع نظرته بيني وأنا أنظر إليه، وكتبه وصورته ومسبحته، دون أي تعليق..
وحين حاولتُ النهوض، وأنا أعتذر له عن التأخير، حرَّك يده اليمني، وهو يبتسم، وتوقعت منه أنه سيقول شيئاً، رغم أن شفتيه تحركتا لأكثر من مرة، إنما استمر في الابتسامة.
وفجأة اختفى عن ناظري !
هي اللحظة التي استيقظت فيها تماماً، كما لو أنني أريد مصافحته، ونجلس معاً كما كنا ذات يوم.
شكراً للنوم الذي أنعم علي بلقاء كالذي تم .
وهأنذا أسجل ما حدث..
ولا أزيد على ما تقدم، سوى: بوركت روحاكما معاً يا العزيزان: بافي رشو وديا رشو، وبورك في اسمك وموقعك ورصيدك من الكردية سلوكاً وثقافة، والذي أمِن لك حضوراً يتعدى الآتي.
وعزائي العائلي الذي لا بد منه: لأفراد عائلة راحلنا الكردي الكبير محمد سيد حسين، وأهله، وأحبته، ومعارفه وأصدقائه، أينما كانوا، وحيثما كانوا..
دهوك في 4-2/ 2024