رمزية الحياة والموت في أدب تشيخوف

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

     يُعْتَبَرُ الكاتبُ الرُّوسِيُّ أنطون تشيخوف ( 1860 _ 1904 ) أعظمَ كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ . كَتَبَ المِئات مِنَ القصص القصيرة التي اعْتُبِرَ الكثير منها إبداعات فَنِّية كلاسيكيَّة ،  كَمَا أنَّ مَسْرحياته كانَ لها تأثير عظيم على دراما القَرْنِ العِشرين ، وَتَعَلَّمَ مِنها الكثيرُ مِنْ كُتَّابِ المَسْرحيات المُعاصِرين .

     قامَ بابتكاراتٍ إبداعيَّة أثَّرَتْ بِدَوْرِها على تطوير القِصَّة القصيرة الحديثة ، وَتَتَمَثَّل أصالتُها بالاستخدامِ المُبَكِّرِ لِتِقنية تَيَّار الشُّعُورِ الإنسانيِّ الدَّاخِلِيِّ ، وتَوظيفِ التفاصيلِ الدقيقة الظاهرة ، وَتَجميدِ الأحداثِ الخارجيَّة في القِصَّة، لإبرازِ النَّفْسِيَّة الداخليَّة للشَّخْصِيَّات .

     تَتَجَلَّى الرَّمزيةُ في أدبِهِ وقِصَصِهِ مِنْ خِلالِ استخدام عناصر حِسِّية لتمثيلِ مفاهيم مُجَرَّدَة ، والتركيزِ عَلى تَعقيدِ الطبيعةِ البَشرية ، وتناقضاتِ المُجتمعِ الإنسانيِّ . وتشيخوف يَسْتخدم الرُّمُوزَ للتَّعبيرِ عَن الهَشَاشَةِ الوُجوديةِ ، والفَراغِ الداخليِّ للشَّخصيات في إطارٍ واقعي ، وإظهارِ جَوهرِ المَشاعرِ الإنسانيةِ والأفكارِ العَميقةِ ، واستكشافِ مَواضيع التَّغْيير والنِّضَالِ مِنْ أجْلِ التَّكَيُّفِ معَ المَشْهَدِ الاجتماعيِّ الجديد .

     حَوَّلَ تشيخوف صُوَرَ الطبيعةِ إلى رُمُوز تَعْكِسُ مَشاعرَ الشَّخصياتِ وتَجَارِبَها ، وَتَنْقُل حَالَتَهَا العاطفيَّة . وغالبًا مَا يُظْهِرُ التناقضَ بَيْنَ جَمالِ الطبيعةِ وَقَسْوَةِ المُجتمعِ الإنسانيِّ . كَمَا أنَّه حَوَّلَ السُّخريةَ إلى رَمزية أدبية لنقدِ الأعرافِ والتقاليدِ المُجتمعية .

     إنَّ أدبَ تشيخوف قائم عَلى فِكرةِ البَحْثِ عَنْ مَعْنى في عَالَمٍ قاسٍ وَخَشِنٍ وَغَيْرِ مُبَالٍ ، مِمَّا يَعْكِسُ ضَعْفَ الإنسانِ وَضَيَاعَه في مَتاهةِ الحَياة . واعتمدَ في أعمالِه عَلى صِدْقِ الوَصْفِ ، والإيجازِ،والمَوضوعيَّة، وَتَصويرِ الأشخاصِ والأشياء بِدِقَّةٍ، وَتَجَنُّبِ الأحكامِ المُباشِرةِ أو المُبَالَغَات، مَعَ قُدرة عَلى طَرْحِ أسئلةٍ فلسفية عميقة ، وَالمَزْجِ بَيْنَ الحِسِّ الكُوميديِّ والأحاسيسِ المُوجعة والساخرة ، خاصَّة في تناول الأحداثِ اليوميةِ والطَّبَقَاتِ الاجتماعية ، والحِرْصِ عَلى التَّأمُّلِ في المَصِيرِ البَشَرِيِّ ، حَيْثُ تَنَاوَلَ تَساؤلاتٍ حَوْلَ قَدَرِ الإنسانِ ، والعَدالةِ ، وَقِيمةِ العَمَلِ ، مِنْ خِلال قِصَص تُسَلِّط الضَّوْءَ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ العاديَّة .

     تتناولُ أعمالُ تشيخوف مواضيع عالميَّة كالحُبِّ ، والمَوْتِ ، والبَحْثِ عَنْ جَدوى الحَياةِ وَحَقيقةِ الوُجودِ ، وَتُقَدِّمُ فهمًا عميقًا للحالةِ الإنسانيةِ، وتَعقيداتِ العلاقاتِ بَيْنَ الناسِ .

     وفي قِصَصِه القصيرةِ ، يَتَّخِذُ الحُبُّ أشكالًا مُتعددة ، فَيَظْهَر الحُبُّ العاطفيُّ الشَّهْوَانِيُّ الذي يَسْتحوذ عَلى كُلِّ شَيْء ، كَمَا يَظْهَر الحُبُّ بِمَعْناه العائليِّ الاجتماعيِّ . وَيُصَوِّرُ تشيخوف بشكلٍ مُتكرِّر التَّوَتُّرَاتِ وَالصِّرَاعَاتِ التي تَنْشَأ في العَلاقاتِ الرُّومانسيَّة ، مُشَدِّدًا في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ عَلى المَشاعرِ المُعقَّدة التي قَدْ تَنْشَأ عِندَما يَكُون الشَّخْصَان عَلى صِلَةٍ وثيقة .

     تَعَمَّقَ تشيخوف في مَواضيعِ الوُجودِ الإنسانيِّ ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى للحَيَاة . واستكشفَ _ مِنْ خِلالِ شَخصياتِ قِصَصِه _ تَعقيداتِ الحالةِ الإنسانية ، وَكِفَاحَ الإنسانِ لإيجاد مَكانِه في العَالَمِ ، وَشُعُورَه بالمَلَلِ والقَلَقِ أثناءَ البَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق في الحَياة ، والانشغالِ بالأسئلة الوُجودية عَن المَعْنى والغايةِ .

     وَيَتكرَّر مَوضوعُ المَوْتِ في قِصَصِه باعتبارِه مُحَفِّزًا لِصِرَاعِ الشَّخْصياتِ الوُجوديِّ . وَمِنْ خِلالِ المَوْتِ تَظْهَرُ هَشَاشَةُ الحَياةِ ، وَحتميةُ الفَنَاءِ . وَتَختلفُ نَظرةُ الشَّخصياتِ إلى المَوْتِ ، فالبعضُ يَعْتبره تَحَرُّرًا مِنَ مُعاناةِ الحَياةِ وَفَرَاغِها ، والبعضُ الآخَرُ يَعْتبره تَذكيرًا بِقِيمةِ الحَياةِ وَضَرورةِ عَيْشِها .

     تَتَجَلَّى فلسفةُ تشيخوف الرَّمزيةُ في بَساطةِ أفكارِه ، وَنَماذجِه القِصَصِيَّة ، وَشُمولِه لِكُلِّ الأفرادِ في المُجتمعِ مِنْ عِلْيَةِ القَوْمِ حَتَّى قاعِ المُجتمع ، كَمَا تَتَجَلَّى في المَوضوعيَّةِ الصارمة التي قَدْ تَبْدُو نَوْعًا مِنْ البُرودِ تُجَاه مَصائرِ الأبطالِ .

     وَأَدَبُهُ يُعْتَبَرُ طريقًا لِمَعرفةِ الإنسانِ والمُجتمعِ والعَالَمِ والحَيَاةِ ، وَطَريقةً لِقِراءةِ تاريخِ المُجتمعِ الإنسانيِّ، بِكُلِّ طَبَقَاتِهِ وَتَناقضاتِه وَصِرَاعاتِه وَمَخَاوفِه وَهَوَاجسِه. وَأَدَبُهُ لَيْسَ خَاتِمَةً مأساويةً للحَيَاةِ ، وإنَّما هُوَ جُزْءٌ مِنْ التَّجْرِبَةِ الوُجودية، التي تَعْكِسُ هَشَاشَةَ الإنسانِ، وَقُوَّةَ حَيَاتِه ، وَتَدْفعه إلى العَيْشِ بِعُمْقٍ معَ استغلال كُلِّ لَحْظَة ، وبناءِ وَعْيٍ مَعرفيٍّ بأهميةِ الحَيَاةِ وحَتميةِ المَوْتِ .

     والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ تشيخوف _ بِوَصْفِهِ طبيبًا _ كانَ يُوَاجِهُ المَوْتَ يَوْمِيًّا، حَيْثُ اعتادَ التعاملَ معَ المَرضى الذينَ يعيشون على هَامِشِ المُجتمع ، وَهَذا الاحتكاكُ المُبَاشِرُ جَعَلَه يَرى المَوْتَ حَقيقةً واقعيةً ، وَفُرصةً للتأمُّلِ ومُراجعةِ الذات ، وَتَذكيرًا دائمًا بِضَرورةِ العَيْشِ بِصِدْقٍ . وهَكذا ، صارَ المَوْتُ في أَدَبِهِ تَجْرِبَةً وُجوديَّةً يَوْمِيَّة . وَلَمْ يُحَاوِلْ تَحويلَ المَوْتِ إلى مَأساةٍ ، أوْ كارثةٍ ، أوْ حَدَثٍ دِرَاميٍّ عاطفيٍّ مُفْرِط ، أوْ جُزْءٍ مِنْ مَعركةٍ رُوحيَّة ، أوْ جُزْءٍ مِنْ صِراعٍ داخليٍّ وُجوديٍّ. بَلْ كانَ المَوْتُ جُزْءًا مِنَ التَّدَفُّقِ الطبيعيِّ للحَياة .

     واعتبرَ تشيخوف الطبيعةَ رَمزيةً أساسيَّة لِفَهْمِ المَوْتِ . ففي قِصَصِه ، تَرتبط الطبيعةُ بالتَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّة والتَّحَوُّلاتِ الداخليَّة للشَّخصياتِ ، وَتَتَّضِحُ الحَيَاةُ بِوَصْفِهَا وِلادةً للحُلْمِ والأمَلِ ، وَيَتَّضِحُ المَوْتُ بِوَصْفِهِ تَكريسًا للعَدَمِ والفَنَاءِ .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

ألوان ملهمة للمزيد من الإبداع
تحظر الأوطان في أغلب أعمال الفنانين التشكيليين، حتى وإن كان حضورها باهتا ونادرا، لكن الوطن بالنسبة إلى بعضهم هو الملهم الأول والأخير، تسحرهم طبيعته وتفاصيله، فينذرون أعمارهم وموهبتهم لإعادة تصويرها في لوحات تخلد ذكراه وتنقل جمالياته نحو الآخر الذي يعيد اكتشاف البلدان في عيون أبنائها.

يرتبط الإنسان بالمكان الذي جُبِل…

فراس حج محمد| فلسطين

يختزن الذكاء الاصطناعي معلومات ذات قيمة دلالية في التعريف بالأشياء أو الأفكار التي يريد المستخدم البحث عنها، وفي تطوّر إيجابي فإن أول النتائج التي تقفز أمام المستخدم/ الباحث تَصوّر الذكاء الاصطناعي عن هذا الأمر المبحوث عنه، فيقدّم خلاصة نافعة مع مجموعة من الروابط التي تحيل إلى المصدر.

لم أنشر من كتاب “الإنقاص البلاغي-…

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م