سِلّة ورد عند الحدود

خلات عمر

لم يكن الطفل قد فهم بعد معنى الانفصال، ولا يدرك لماذا غابت أمّه فجأة عن البيت الذي كان يمتلئ بحنانها. خمس سنوات فقط، عمر صغير لا يسع حجم الفقد، لكن قلبه كان واسعًا بما يكفي ليحمل حبًّا لا يشبه حبًّا آخر.

بعد سنواتٍ من الظلم والقسوة، وبعد أن ضاقت الأم ذرعًا بتصرفات الأب وسلوكه الذي دنّس قدسية البيت، لم تجد مفرًّا سوى الرحيل. رحلت لتحمي ما تبقى من روحها، لكنها تركت خلفها قطعةً منها… طفلًا لم يشبع من حضنها، ولم يعرف غيرها ملجأً للأمان.

في إحدى أمسيات القرية، رفع الطفل الهاتف بيدين صغيرتين وقلبٍ مليء بالشوق، وقال بصوته المرتجف:

“ماما… راح أملّا سلة ورد من كل ألوان الطبيعة بقرية جدي… وأحضرها إلى الحدود عندما تعودين”

كان يظن أن الحدود مجرد مكان تلتقي فيه الأقدام… لم يكن يعرف أنها في حقيقتها جدارٌ عالٍ من الوجع يمنع أمًّا عن طفلها.

لم يكن قلبه الصغير يفهم أن أمه لم تعد قادرة على السفر إليه، وأنها تعيش كل ليلة عذابًا لا يُطاق… تبكيه ولا تستطيع الوصول إليه، كأن المسافات سكاكين تُغرس في صدرها كلما سمعت صوته.

كانت تقول في سرّها:

“يا ابني… تلك الحدود التي تنتظرني عندها ليست حدود بلد… إنها حدود قلبي المكسور.”

لكن الوجع لم يكن من الأب وحده…

كان هناك مجتمعٌ يقف خلفه، يشدّ على يده ويزين له جبروته. مجتمع يرفع راية العادات والتقاليد فوق كل شيء، حتى فوق حق طفل في حضن أمه. يردد بصوت واحد:

“الأولاد لأهل أبيهم… هكذا ورثنا.”

لم يسأل أحد:

أين رحمة الأم؟

أين حق الطفل؟

أين صوت العدالة في قلوب البشر؟

لم يروا دموع الأم كل ليلة، ولا انكسارها وهي تعرف أن طفلها يجمع الورود ليهديها لها، بينما هي عاجزة عن عبور الحدود نحوه.

ولم يلمحوا حزن الطفل وهو يضع سلة الورد قرب باب البيت كل صباح، وكأنه يهمس للعالم:

“أمي سترجع… أكيد سترجع.”

كبرت السلة… ذبلت الورود… ثم امتلأت من جديد.

صارت رسائل حب بينه وبين أمّه، رسائل لا يقرؤها أحد غير السماء.

هكذا استمرت الحكاية:

ظلمٌ يستند إلى التقاليد،

وأمٌ تستند إلى الصبر،

وطفلٌ يستند إلى الأمل…

وسلة ورد تقف عند الحدود كشاهدٍ صامت على قسوة مجتمعٍ فرّق بين أم وفلذة كبدها.

ومع ذلك… بقيت الأم تؤمن أن الحق لا يموت.

وأن الطفل الذي يجمع الورود اليوم… سيكبر يومًا، وسيفهم الحقيقة كلها، وسيعرف أن العادات التي فرّقتهما لم تكن يومًا شريعة… بل كانت قيدًا من صنع البشر.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خوشناف سليمان

لم تكن الصحراء في تلك الليلة سوى صفحة صفراء فارغة. تنتظر أن يُكتب عليها موتٌ جديد.
رمل يمتد بلا نهاية. ساكن كجسدٍ لا نبض فيه. و الريح تمر خفيفة كأنها تخشى أن توقظ شيئًا.
في ذلك الفراغ توقفت العربات العسكرية على حافة حفرة واسعة حُفرت قبل ساعات.
الحفرة تشبه فمًا عملاقًا. فمًا ينتظر أن يبتلع آلاف البشر…

تلقى المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، اليوم، بحزن، نبأ رحيل شقيق الزميلة رقية حاجي:

نايف أحمد حاجي
الذي وافته المنية في أحد مشافي هولير/أربيل عن عمر ناهز ٥٩ عامًا.

يتقدم المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا بخالص العزاء للزميلة رقية حاجي، وللفنان حسين حاجي، وللناشط عبدالكريم حاجي، ولعموم عائلة…

صبحي دقوري

في لحظة ثقافية نادرة، يتصدّر الموسيقار الكوردي هلكوت زاهير المشهد الموسيقي العالمي بعدد أعمال معتمدة بلغ 3008 أعمال، رقمٌ يكاد يلامس الأسطورة. غير أنّ أهمية هذا الحدث لا تكمن في الرقم نفسه، بل في ما يكشفه من تحوّل جذري في مكانة الموسيقى الكوردية ودورها في المشهد الفني الدولي.

فهذا الرقم الذي قد يبدو مجرّد إحصاء،…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…