غريب ملا زلال
مرة أخرى أعلنها بأن إحسان حمو ( إعزاز / حلب 1962 ) ينتمي إلى قافلة الفنانين الذين ظلموا جداً في تلك الجغرافية التي كانت تسمى الوطن، و إن بات الأمر جلياً الآن بأن الظلم طال البشر و الحجر و الشجر، لكن هنا أقصد على أقل تقدير فنياً و إن كان الأمر مرتبط، بل متشابك إلى حد كبير بالمناخ العام و الذي إتضح لنا جميعاً إلى أي حد كان ملوثاً، بل كان مسموماً و قاتلاً، و لم يسلم حمو من شربه و التذوق منه، و أتمنى أن يكون بمقدوره الآن بعد أن تنفس الصعداء بخروجه إلى الشتات و تحديداً إلى فيينا حيث يقيم أن يتنفس هواء نقياً و يقدم لنا ما ننتظره منه ليضيف لرصيده ما يليق به، و أسعدني بمعرضه المشترك الأخير في فيينا ربما ترد له روحه الحقيقي و التي بدورها سترد الروح لأعماله،
فحمو و هو يستحضر وجوهاً من الذاكرة البعيدة، وجوهاً تلفها القسوة و الوحدة، و الحرب بكل وجعها، و تأخذ إمتداداتها المكانية، و تأثيراتها الزمنية في أفق لا نهائي، محافظة على إنتماءاتها، و على أهمية تطوراتها، فمن الوهلة الخاطفة تفرض لغتها على اللوحة، لغة تتقنها تلك الوجوه و يتقنها حمو أيضاً، و لهذا لا ينتهي من تصويرها، بل نجده يركز من خلال مفاهيم لونية على ملامح جديدة لها، تلك الملامح التي تأبى الرحيل من ذاكرة حمو إلا إذا كان هذا الرحيل إلى مساحاته البيضاء، إلى فضاءاته التي فيها ستتلاشى كما يتلاشى الحنين عند اللقاء، إلا إذا كان هذا الرحيل إلى أعماله المصاغة بذهنية تجريدية تفرض لسان حالها ضمن حركات لونية مشبعة بالأحاسيس و بالإنفعالات و باللمسات العفوية، و تقدم ذاتها بقيم جديدة، و بحذر تشكيلي تلامس قدره، فكل لوحة عنده تشكل تدفقات تحمل فوضاها الفني في ذاتها، و تمنحه قدرة متميزة لقيادة التدفق نحو عملية إبداعية مملوءة بالتداخلات التي تتحرك وفق خصائص تعبيرية محفوفة بخطوط مركبة هي مزيج من خطوط ترتبط بشكل أو بآخر بروابط عاطفية غنية بالإرتفاعات أو بالإنخفاضات تبعاً لإنتقالاتها الكثيرة و السريعة داخل العمل الفني، أو تبعاً للحالات المرتبطة بدورها بالرؤية العامة للعمل الفني، فتحديد الرغبة وفق تقدم تلك الخصائص أقصد الخصائص التعبيرية هي التي ستكسب العمل الفني إيقاعات موحدة برغم تضادها الخارجي / الظاهري، أي أن التباينات التي قد تظهر كسلسلة نغمات لونية تسمع رنينها بقصد تخيلها ( قوية شديدة أو ناعمة هادئة ) هي التي ستحرر قواها عموماً و هنا يبرز الخبرة الجمالية في تفكير حمو و التي ستطلق العنان لكل قواه الحيوية الخاصة بالخيال حيناً و بالإنفعال في حين آخر فيميل إلى الهروب من الأطر المألوفة على نحو لا إرادي، حتى لا تتصيده العزلة على الأقل بين ذاته و العالم بوصفه منتج ( بكسر التاء ) لحكايا وجوه تجتذب عين المتلقي على نحو نشط و فعال .
ما يقدمه إحسان حمو يفرض نفسه على إهتمامات المشتغلين في هذا المجال، متجاهلاً التحديات الشكلية التي تحاول بشكل أو بآخر أن تفرض ذاتها على تجربته، فهو يدرك و نحن معه أن أعماله هي نتاجات في ذاتها، مع وجود خصائص بنائية مميزة لها تدفعنا إلى قراءتها بدءاً من الداخل إلى الخارج أي من ماذا إلى كيف، فالخفي في العمل الفني حينها يبدأ بالظهور و إن بهدوء جداً و بصمت مهيب، فخصائص الخفاء هنا تتوافر طرداً مع الإستغراق في الحالات الخاصة المصحوبة بالأسى و الآهات العميقة، و كأنه أمام ذكريات مؤلمة يعيدها بمستويات متعددة و على شكل نوافذ لونية تصاحب أرضه ( أقصد لوحته ) المكسوة بملاذ آمن تكون هي المسافة المرتبطة بالمثيرات الجمالية التي عليها يترتب شعور المتلقي بالحب أو بالملل، بالقرب أو بالبعد، أي عليها يترتب إنجذابات المتلقي فتظهر له بعض تكويناتها و كأنها منطقة أحلامه التي قد تكون على هيئة ذكريات و حدس حقيقي، أو على هيئة كوابيس لم تتحرر من قبضته بعد، و في الوقت نفسه هي التي يدفعه إلى الإهتمام بكل تلك الإحالات إن كان بمحتواها الإنفعالي أو الإدراكي رغم أن كليهما تستثير العمل الفني و المتلقي معه و قد يصل بهما إلى أبعاد حياتية أكثر تركيباً و عمقاً، فالحضور المتفاعل و المتزامن هنا بينهما ( بين العمل و المتلقي )، سيشكل المصدر الأهم لإنجاح متعة التذوق و ما ترافقها من إستثارات معرفية، فالإستغراق الإنفعالي و المعرفي من أهم الأساليب للتعبير الشخصي و الإبداعي معاً، و نعتقد أن لذلك الدور الكبير في خلق علاقات تعبيرية متزايدة مبنية على المعرفة بالذات و بالعمل المبدع و بمزيد من الإتساع و العمق في الرؤية و الإداء، و لا تكف عن الحركة و التفاعل بينهما، بل قد يأخذنا ذلك إلى الإنصات أو ما تسمى عملية الإستماع إلى اللوحة، نعم الإستماع، فللوحة لسان و صوت، و قد يجد بعضهم في ذلك نوعاً من الغرابة منطلقين من اللوحة بوصفها فن بصري متناسين أن كل فن بصري يحمل في ذاته أوتاراً غير مرئيّة تبدأ بالعزف ما إن تقترب منها، حتى تبدأ بإصدار إيقاعات موسيقية تبعاً لذائقة المتلقي، معتمدة على مدى توافر الموسيقا التي تناسب الموقف، فملكة الإستماع هذه و إن كانت تتطلب المزيد من الخبرة و الممارسة حتى يكون في وسع المرء أن يتذوق منظوماتها و يفك رموزها، و بالتالي يستوعب العمل الفني من خلال إستيعاب الموسيقى الصادرة منها، فالإنصات فن، و سماع هسيس اللوحة و تكويناتها فن، فكيف لا يبدع الفنان و خلطته الإبداعية مجبولة بالموسيقا، و إن كانت تتطلب هذه الجبلة من متلقيه قدرات إدراكية و تحليلية و معرفية في الوقت نفسه، قدرات ستكون هي العامل الأهم في الإرتقاء بالعمل المبدع .
على الرغم من تعاطف إحسان حمو مع القلق الذي يعيش فيه، مع الخوف الذي يسيطر على شعوره، مع التوتر المتصاعد من أصابعه، فهو يملك الخبرة التي ستجعله يقف مسافة عادلة من أحداث حقيقية هي أقرب إلى المتخيلة أو المتوهمة، فالمفاجآت تصاحب مشاعر الحزن لديه و التي قد تكون نواة مشاعر بهجة غير مكتملة، و قد تكون تخييلات مرتبطة بالإجتياح، أو توقعات يعمل بذكاء على إشباعها، فالمسألة هنا ليست مجرد صدمات لونية تنتمي إلى ماضيه، و ليست مجرد إثارة إنفعالات يكشف عنها في خلاصة بقعه اللونية، بل المسألة مزج بينهما، بين هذا و ذاك فتتحقق المتعة الخاصة و هذا ما يزيد من إحساسات الأمان الخاصة لديه، و ما يجعل عمله زاخراً بالمفردات الدالة على حالات التماثل، زاخراً بلغة إنسانية تتمثل في التركيز على الجوانب الجوهرية من النشاط الإنساني، زاخراً بتفسيرات لمحاكاة إنفعالات و حياة، بمحاكاة تتسم بقدر من التجريد التي تثير في نفوس شخوصه و متلقيه حالة تراجيديا و كأنه بها يطهر النفس من جوانبها كافة، فتأثيراتها واسعة لا على أساس إفتراضات محددة الأهداف، بل على أساس النهايات المفتوحة مع الإهتمام بجماليات جديدة تتمثل في اللون و التعبير و الحركة .