صاحبي الكلب

إبراهيم محمود

لهاثه إلى جانب مخالطة ظله لظلي الذي كان يتقدَّمني، جعلني ألتفت إليه:
-لابد أنك تفاجأتَ بوجودي وأنا أسير بجوارك؟
-لهاثك أولاً، ثم امتداد ظلك !
-هناك أشياء كثيرة تعنينا نحن معشر الكلاب، لهاثنا واحد، يعبّر عن داخلنا، مثلما أننا بالشم نتواصل مع متغيرات الخارج، إلى جانب كامل جسمنا عن أي متغير طارىء، هكذا نحن مذ كنا، وأما عن لهاثي الآن، فهو ما شغلني كثيراً، وأردت مفاتحتك به، ولعلك تضايقت من مخالطة ظلي لظلك، لأنك تنتمي إلى الذين لا يعرفون أين تبدأ حدود صلاحياتهم وأين تنتهي !
– دعك من ذلك !
قلتُها بحركة من يدي.
-طبعاً، لأننا معشر الكلاب اعتدنا الصراحة، على العكس منكم تماماً، فكثيراً ما تلغزون في كلامك، وتعتبرون ذلك ميزة خاصة بكم،لهذا،كان عليك أن تتوقع ظهوري في أي لحظة، خاصة أنتم معشر الكتاب، وبصورة أخص، من يمتهنون شئون الفكر أمثالك !
-إنما عن…!
لم أكمل الجملة. رفع هامة رأسه، وزاد منسوب لهاثه:
-إنما عن الكلاب. أليس كذلك؟
-ليس..ليس بهذه الصيغة تماماً!
-هذه نقطة أخرى تسجَّل عليكم معشر الكتاب.وأنتم اثقون من أنفسكم كثيراً .
لم أرد عليه، إنما قطعنا مسافة لا بأس بها، وفي صمت، ليتمسح بي قليلاً، وليقول:
-لنتحدث إذاً، وإذا كان وقتكم محسوب، فوقتنا محسوب بدقة كذلك.
قبل أن يعلّق، بادرت في الحال:
-يمكنك أن تفاتحني بموضوعك .
هز رأسه، وعلَّق:
-الصحيح: موضوعنا نحن  يخص الكلاب عامة، فالكلب حين يتحدث يخص به حديثه الكلاب جميعاً، على النقيض مما تتصرفون أنتم معشر البشر، وأنتم الكتاب قبل غيرهم .
شعرت ببعض الضيق، سوى أنني لم أشأ مناقشته، لعله ثال صوباً، فقلت:
-لابأس، لابأس !
اشتد لهاثه، وهو يقول:
-بنو جلدتك لم يتركوا شيئاً فينا ولنا إلا وحوَّلوه إلى نقيصة ضدنا، لا رأسنا سلِم ولا ذيلنا سلِم، وليس لذيلنا ولا للعظمة التي نحصل عليها أحياناً علاقة بما تعرفونه أو تقولونه عن بعضكم بعضاً. حتى عواءنا أو نباحنا، لم يسلم من ذمك وقدحكم. وأنتم تقولون عن أحدهم أنه يعوي، أو كلامه كالنباح، وهذه إساءة إلى جنسنا. مالنا ومال كلامكم وتقويمكم لبعضكم بعضاً . فأفلا يكفيكم ما أنتم فيه من الامتيازات والصلاحيات، لتتعدوا على سواكم، ونحن خصوصاً ؟ 
وقبل أن أوضح وجهة نظري، استرسل في الكلام، ولهاثه يزداد حدة:
-اسمع، اسمع، حتى عواءنا أو نباحنا التبس علينا، حين ننخدع أحياناً بأحدكم ليلاً، خاصة، وهو يصدر صوتاً شبيه صوتنا، فنندفع إليه، وإذا به فرد منكم، وبالتالي، بتنا نشك في أصوات بعضنا بعضاً، إلى أن نتأكد بالعين المجردة. وهذا تعدّ سافر على حقوقنا. لكم أنتم طماعون .
بادرته بالقول:
-هل ترى أنني أستطيع التدخل، ووضع حد لهذه التعديات ؟
-لم أقل ذلك، إنما أردت أن أضعك في الصورة البائسة التي انتهينا إلينا، ولأن ذلك يهمك كثيراً..
توقف عن الحديث لبعض الوقت، واستدرك قائلاً:
-نحن لا نخلص إلا لمبدئنا الكلبي. مبدؤنا في كل ما يصدر عنا من سلوك، ونعرَف به ثابت، لا ما تنسبونه زيفاً إلينا. وبالمناسبة أليس هناك فيكم من سمّى نفسه كلبياً، اعترافاً بنا، وهو يدافع عن الفضيلة ؟ وإذا حسبناها جيداً، فسوف لن تستطيع إحصاء الحالات التي اعتدتموها وذممتمونا فيها. ولا صلة لنا بأي منها:حين تمجّدون أحدهم، أو تركعون له، أو تتمسحون به، وحتى دون أن يحصل أحدكم ولو على عظمة ناشفة، وتعضون بعضكم بعضاً، ونادراً ما نعمد إلى ذلك . 
أردت اختباره، فقلت:
وماالذي أبعدكم عن أشقائكم من الكلاب البرّية، وجعلكم في ذمتنا؟
رد في الحال:
-هذه لا تسجَّل علينا، إنما لصالحنا، لأننا قدَّمنا، ولازلنا نقدّم كل ما يسهّل أموركم اليومية، أمام بيوتكم، وفي حدائقكم، وفي مؤسساتكم، وفي منازلكم، لنكون شهوداً على مدى ضعفكم. هلّا تصورتم عالمكم خالياً منا نحن الكلام، في أنواعنا المختلفة، والخدمات التي نقدّمها لكم، وماذا قدَّم لنا غير الإساءة وزعم المنّة والرعاية؟!
-ماالذي يبقيكم مادمتم تشعرون بصنوف الإهانات هذه ؟
حرَّك ذيله، وهو يركّز بنظرته الكلبية علي:
-أقول مجدداً،ذلك مبدأ ثابت من مبادئنا الكلبية التي نعرَف بها، في المخالطة والحراسة والمؤازرة . وأنتم، ماضون في سلبنا أهم السمات الكلبية فينا: في الحركة، وإصدار الأصوات، والعلاقات …
التزمنا الصمت، وقطعنا مسافة طويلة، دون أن أنبس ببنت شفة، فأنا كنت على وعي تام من أن الذي أسمعه من صاحبي الكلبي، من شكاوى، ليس فيه ما يخرج عن الواقع، لأقول له:
-أنا معك في كل ما أشرت إليه .
ساد هدوء بيننا ، ولعدة أمتار، ولأفأجأ بما يشبه السؤال:
-لأنك قريب منا، هل اشتهت نفسك ذات مرة أن تكون كلباً؟
فاجأني سؤاله وجعلني أجمد في مكاني:
-لم أتوقع سؤالاً كهذا أبداً ؟
فتصاعدت وتيرة لهاثه، وهو يقول:
-يلزمك الكثير لتعرف حقيقتنا نحن الكلاب، يلزمك الكثير لتعرف من تكون، ولتكون كاتباً ..و..
وخلال ثوان، فارق ظله ظلي، وتلاشى صوت لهاثه، وهو يعدو إلى الأمام بأقصى سرعة، كما لو أنه لم يرد أن يسمع مني ولو كلمة واحدة، أو مجرد سؤال واحد..أو السير معاً لمسافة أخرى، واختفى عن ناظري بعد قليل ..!   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…

شكري شيخ نبي ( ş.ş.n)

 

والنهد

والنهد إذا غلا

وإذ اعتلى

صهوة الثريا وابتلى… ؟

فما ضل صاحبك

ولا جرى في الغوى… !

 

والنهد

اذا علا

حجلين اضناهما

الشرك في اللوى

او حمامتين

تهدلان التسابيح في الجوى… ؟!

 

والنهد

اذا غلا

عناقيد عنب

في عرائش السما… ؟

توقد الجلنار

نبيذا في الهوى… !

 

والنهد

اذا غلا

وإذ اعتلى صهوة الثريا والنوى

تنهيد في شفاه التهنيد…؟

كالحباري

بين مفاز الصحارى

اضناه

مشاق اللال والطوى… !

 

والنهد

اذا علا

وإذ اعتلى كالبدر وارتوى… ؟

فما ضل صاحبك

ولا وقع في شرك…