هيفي الملا
كانت جلسةَ مصارحة وتبادل وجهات النظر بيننا في فهم وإدراك كل واحد منّا لطبيعة الحياة ومنتهى أمنياته فيها، وهل يسعفه الوقت لتحقيقها كلها ، أم سيبقى حبل الأماني متأرجحاً، يحملُ أمنية ويُسقِط أخرى، ويجعل أخرى بعيدةَ المنال والمُشتهى .
والأجوف الذي يعيشُ كعود ذرة بلا أهداف وأمنيات، بلا وجع على أملٍ ٍخائب أو سرورٍ لحلمٍ محقق، يعيش يومه ليومه فقط، كيف يرى الحياة ياترى ؟ كيف يفهمُ ماهيتها؟ وكيف يستطيعُ خوضها دون قرارت وأهداف ومخططات مرسومة وملغية ثم ملغية ومرسومة .
ربما لكل منا طبيعة في إدراك هذه الحياة، وهو المنحى الذي التي قادنا للحديث، هذا يشرحُ ويسهبُ بواقعيةٍ ويرى في إتمام الدراسة ونيل شهادةٍ مجلبة الفخر و خاتمة الأمنيات، وهكذا تكون الحياة في رأيه منصفةً معه،
ذاك يرى في أطفاله امتداداً له، فالمشروع المثمر في الحياة هو الزواجُ والإنجابُ، لأن اسم المرء لن يضيع ويندثر مادام فعلُ التناسلِ مستمراً ، لذلك اختصر صديقنا الطريق وتزوج وأنجب، ليرى أجزاءً منه تتحرك على الأرض وتكبر فتلك صفوة أمنياته و غاياته من الحياة .
صديقنا عاشقُ الكتب، يعدلُ وضع نظارته على أرنبة أنفه، قائلاً : بأنه لايرى في إتمام الدراسة ولا إنجاب الأطفال خاتمة الأماني، بل يرى الخلود هو الهدف، و يكمنُ الخلود برأيه، بإنتاج وصنع أشباءً مخلدةً للاسم أكثر من الأطفال، كأثرٍ أو منتجٍ فكري بل آثار فكرية يرى اسمه مطبوعاً عليها، آثار تزلزل بعض الأفكار، تهدم بعضها لتزرع غيرها ، آثار مدعاة للتفكر وإعمال العقل والقلب، هنا تكمن غايته وهنا يترجى الحياة لتساعده في إنجاز مايصبو إليه .
صديقنا خالي الأماني والأهداف : أنا اليوم معكم في رحلة للطبيعة، أديرُ شؤون عيني لتستزيدا من الجمال وشؤون معدتي لتستزيد من أطايب الطعامِ أُلهي بها نفسي، حتى تنهوا حديثكم الممل، ماشأني بالغد مادمتُ حياً اليوم، لماذا أتعبُ رأسي الجميل بالمستقبل وماقد يحمله.
تمنيتُ في قرارة نفسي ألّا يبلغني الدور، لأنني فشلتُ ككل مرة في ترتيب أفكاري والإمساك بحبل الرغبات الواهي، لم أكن استمع إليهم، بقدر ما كنتُ أحاول تنميط كلماتي وجعلها جاهزة مقلوبة مسبقة الصنع ، و هاهو دوري لشرح رؤيتي للحياة واختصار أمنياتي، وأنا لااملك لاخطة ولا أمنية محددة ولا مفهوماً مؤدلجاً حتى، ربما لزخم الأماني التي تتصارع في رأسي تلاشت جميعها، ، تنبسُ شفتاي بتثاقلٍ وترددٍ الأن : لا اعرفُ ماهو فهمي وإدراكي للحياة، ولا أدرك منتهى الأماني عندي، لاني أشعرُ بالحياة تنسابُ وتتسللُ من بين أصابعي، ولا أستطيع الإمساك بها كما ألمسُ أي شيء حقيقي.
هو الشعور بالضياع والتشتت، ربما، والوقوف على مفترق الدروب ، مع الإحساس الدائم بأن هذه الأرض ليستْ مكاناً لأتوقفَ هنا أو هناك، ففي داخلي ضجيحٌ وبنات أفكاري تشدن شعور بعضهن وتتضاربن، رؤى غير واضحة المعالم، وشعوري أن هناك محطةٌ لم ألحقها فأخسرُ يومي والغد، لأتحولَ لامراةٍ تجلدُ ذاتها بسياطِ الوقت المؤلمة والمحطات غير الموسومة بالوصول .
لا أدري ان كنتم تدركون ماأقول، ولكنني لستُ الإنسانة التي تسبقُ الوقت وتلهو بجدائل الشغف ، بل إحساسي هو إن الوقت من يسبقني ويعبرني ولا أعبره.
دعوني اخبركم بآخرحلمٍ شاهدته ربما تساعدونني في صياغة فكرتي عن الحياة أكثر، حلمتُ بأنني حجر شطرنج وثمة يد ضخمة تلعبُ بي وترسمُ مصيري، وقبلها حلمتُ بأنني إنسانةٌ آليةٌ مبرمجةٌ في عالمٍ واسعٍ من الأرقام والمشاريع والأمنيات ، ولكنها مسبقة الصنع، لم أخلقها، وليست أثراً من آثار عاطفتي أو فكري أو اجتهادي الخاص .
أخبروني أنتم كيف أفهمُ الحياة، و أنظمُ دبيبَ خطواتها على صفحة روحي، كيف أمتلكُ قوةً خاصة لشدِ الخناقِ على رقاب الوقت وعلى الذكريات حتى لا تخنقني هي .
عشراتُ الأماكن مارستْ سطوة عشقها علي، أعشقها فأغادرها، عشرات الأيادي مارستْ مرونتها في ترك يدي، عشرات الأماني تحترق داخلي بفتيل التابو، ومئة قصيدة تتحولُ لزجاجٍ مكسور، وتبقى عالقةً في حنجرتي، وها أنا اليوم لا أجيدُ لا البلع ولا الكلام، تتوزعني عشرات الأمكنة وتسكن روحي صورٌ لأشخاصٍ تبعدهم جغرافية القهر عني، وتتناوبُ مخيلتي لغاتٌ ولهجاتٌ وأشباهُ أمكنة وتحملني رغباتٌ ورغبات، أعلقها خيطاً واهياً على شجرةٍ في قمة جبلٍ بعيد تحملُ فوانيس صغيرة وقطع قماش وتمائم وعيون زرقاء، ليسمونها يوماً شجرة الأماني.
أدركُ تمام الإدراك، إن هذا العالم محمومٌ يجري مسرعاً لاهثاً، ولذلك ترونني من الفجر إلى الليل سريعةً لاهثة في كل شيء، في المشي والقراءة والعمل والاتصالات، ولكنني لا أدركه .
سأقول لكم لم أبلغ منتهى أمنياتي بعد، ولا اعرف ما أريدُ من الحياة، ولا ماتريده مني، ولكنني اليوم بالذات، اتمنى أمراً قد تستغربوه، وهو أن أعيشَ خارج حياة نفسي، لَأتأملها جيداً ولو لآخر مرة كشخص غريب، علني أنجحُ في إعادة تشكيلها من جديد، لستُ كائناً منفصلاً عن نفسي وقد تخيفني اجتهادات علماء النفس في مجال الانفصام والاكتئاب، وكثيراً ما أرجعُ لكتب التنمية وتطوير الذات وتنمية المهارات، ويا إلهي كم أشعر بسذاجة بعضها، وأضحكُ على عباراتٍ تحاولُ جاهدةً أن تغيرَ عقلي وسلوكي وضبط عداد الزمن على جسمي وحواسي ونفسي، وكأنها تعتبرني منتجاً رخيصاً، وهنا تكمن داهية المصايب عندما أحاولُ مرات أن أكون الصورة التي بريدها الآخرون، و خلاصة تجاربهم َو أقاويلهم، لتزدادَ غربتي عن نفسي أكثر.
علا صوتٌ ليسألني، ليكسر جليد تلك المتاهة اللغوية التي انطلق فيها لساني.
في النهاية هل أدركتْ ماتريد؟ فأجبته نعم، لا ، ربما، لا أدري، ليضيعَ صوتي مجدداً في جلبة كلماتهم ….!!!