بقلم: وجدان عبدالعزيز
حينما وجدت نفسي أمام قصائد ديوان (وسيلة لفهم المنافي) للشاعر لقمان محمود، صار من المفيد أن أشير إلى تعدد وتشعب مناهج النقد، ابتداءاً من القرن العشرين الذي امتاز بالتحليلِ في حقول الفكر والمعرفة وعصر اجتراح المنهجيات، ومن معطفه ظهرت المناهج النقدية الحديثة التي دشنها الشكلانيون الروس (1915 – 1930)، ودي سوسير مروراً بكشوفات النظرية البنيوية التي تقوم على تطبيق المنهج اللغوي في التحليل، ورفض المؤثرات الخارجية، وصولاً إلى السيميائيات التي حررت الأدب والنص الأدبي من سطوة البنيوية، وانتهاءاً بالتفكيك الذي طور السيميائية إلى آفاق جديدة في البحث عما هو مغيب في الخطاب الأدبي.
هذا ما يجعلني أتبنى الدعوة، وأعني بذلك الدعوة إلى خلق قارئ جديد يمتلك وعياً عميقاً بالمنهج لقراءة النص الإبداعي الحديث، وبخاصة النص الشعري، الذي يعد من أكثر الخطابات الإبداعية تعقيداً. فالنص «فعالية لغوية – كما يقول الغذامي – انحرفت عن مواضعات العادة والتقليد وتلبست بروح متمردة رفعتها عن سياقها الاصطلاحي إلى سياق جديد يخصها ويميزها». يقول أدونيس: (دور الشاعر إذن هو أن يشارك بطاقته كلها في تكامل الانسان خلال الزمن، بين شهوة الحياة وغبار العالم، فللشاعر ميزة مزدوجة: عالق بالتاريخ ملتصق به حتى الانصهار، منفصل عنه، بعيد حتى الغربة، إنه لايؤخذ بالحياة إلا فيما هو يبحث عن حياة أخرى ثانية وراءها)، من هنا وعبر سياقات القراءة، قد أسوغ لنفسي الدخول لديوان لقمان محمود، الذي تحرك برؤية محددة وموقف ثابت من الجانب الذاتي المنصهر بالجانب الموضوعي .. فهو يعيش بامتلاء الحياة مازجاً أياها بالحلم، والشعور بالمحيط .. وكأن من الحسن أن أنقل جزء من رسالة جبران لماري هاسكل سنة 1913م، حول الفن والحرية، حيث يقول: (إني سعيد جداً لإعجابك بالعرض الدولي للفن الحديث، أنه ثورة واحتجاج واعلان استقلال، أن الصور بحد ذاتها ليست عظيمة، بل أن الجميل منها قليل جداً، غير أن روح المعرض بوجه عام جميلة وعظيمة معا، التكعيبية، التأثرية، ما بعد التأثرية، المستقبلية … هذه كلها ستقضي وتزول، وسينساها العالم، لأن العالم ينسى على الدوام التفاصيل الثانوية، إلا أن روح الحركة لن تقضي ولن تزول، لأنها حقيقية، كما هو جوع الانسان إلى الحرية حقيقي، بمقدور الانسان أن يكون حراً دون أن يكون عظيماً، لكن ليس بمقدور أي انسان أن يكون عظيماً إذا لم يكن حراً)، هكذا أراد الشاعر لقمان محمود أن يكون حراً أولاً والبقية تأتي .. ففي قصيدة (التراب) يقول:
(مثخناً بالذكريات، كغبارٍ مفجوعٍ بالتراب
هكذا أراني متشبثاً باللامكان، وبالقبر الذي يتناثر
في المنافي.
أمضي إلى بيتي الأول، أمضي إلى طفولتي
أتنفسُ البيت الطيني، كأنني رئة التراب.
يقيناً أيتها الأرض الأخيرة
أنكِ ساترٌ ترابي
لمكانٍ يسقط،
لمكانٍ يصمد
غير أني قناصٌ فاشل،
أنظر من زاوية معتمة
إلى الهزائم.
سأروي كيف كان أبي يرسل إلى المعركة قوت
عائلته، وعندما اشتدت الحرب أغلق دكانه،
و إلتحق بثورة لم تصمد طويلاً.
عاد أبي مهزوماً وجريحاً، ومات قبل أن يعرف
أنّ شقيقه قد استشهد.
في تلك الليلة أغمضتُ عيني على الدموع:
ضجيجٌ في الغرف،
ضجيجٌ في باحة المنزل،
ضجيجٌ في الشارع،
و هدوءٌ على جثة أبي.
بعدها بأعوامٍ تدحرجت حروبٌ أخرى، إلى
جهة أخرى في قلب الشمال:
حروبٌ معجلة،
حروبٌ مؤجلة،
حروبٌ وقحة،
حروبٌ خاملة،
حروبٌ حاقدة،
حروبٌ غادرة،
و حرب الأخوة.
غير أنّي لا أحتاج إلى براهين جديدة في
انهيار الأعمار والحقائق، و أنتِ على
ما أنتِ عليه: فاتحةً للأبد قبر الحياة.
لكل ذلك سأكتمُ أنيني، فالمشهد على حاله
من “كوباني” إلى “شنكال).
هذا الشعور بالمحيط واستلهام التاريخ ومزجه بالحاضر، جعل الشاعر يعيش حريته الطقوسية الخاصة به .. جعله يكرر فعل الاستيقاظ رابطاً أياه بحالة الانتظار .. وهنا نلاحظ التصاقه بالتاريخ وانفصاله منه، ليبحث عن حياة أخرى، كما أشار إلى ذلك أدونيس.. وقال أدونيس أيضاً عن الشاعر أبوشبكة: (يعيش في مسافة يحدها طرفان: الأول البراءة وتتمثل في الطفولة والحلم والطهر، والثاني العالم أي الواقع أو الدنيا، وفي هذا الطرف الثاني يكمن الشر، أنه فردوس لكنه مليء بالأفاعي )، وهكذا كلما أوغل في قراءة خلجات لقمان محمود الشعرية، أتذكر ما قرأت عن الشعر والشعراء، لأجد لقمان يعيش الحياة باحثاً عن جمالها في الحب، لهذا أجده يلجأ لإمرأة يبدو أنها كانت عنوان الحب الحقيقي في حياته، أنها دلشا يوسف، ومن مزاياها الحسنة أنها شاعرة تحلق معه في عوالم الحلم .. يقول لقمان محمود: (أنتظر إمرأة/ ـ تحب القصيدة/ أكثر من المرآة ـ / لتجمع من حديقة ناري/ باقة ضوء.)، ولن يفارق روح تلك المرأة ، رغم أنها زوجته .. ولكن يبدو أن الشاعر قد جسد الحياة وجمالها ذهنياً من خلال دلشا .. فهي الوطن والجمال والطبيعة والمحيط والتاريخ .. وهي الأم أيضاً .. (أنتظر عاصفة قوية/ تقتلع الظلم من الجذور/ ولا تترك سوى هيكلها العظمي/ تمثالاً للحرية.)، وبقي الشاعر يعانق المحيط بمحبة ويفارقه، حينما يقسي على مساحات الحب والسلام، يقول في (حمامة الأيزيدي):
(للحمامةِ نشيدها الأبديُّ
المفتوحِ
على
سلامٍ
لا يتّبع إلا ذاته.
سلامٌ يتجاهلُ الحربَ الواقفة
في تاريخنا المعذّبِ
بدماء القامات.
حمامةٌ، ستبقى حمامةْ
في وطنٍ كلما استيقظ من جهاته
تَقَطَّرَ الشمالُ دماً.
و أنا أنا، حجرٌ
ليسَ في ذاكرته سوى الجبل).
تغنى هنا بمحيطه الطبيعي، لكن بأغنية حزينة نتيجة لذلك الدم المباح في نفوس كريهة لاتدرك معنى الحياة، فالحقيقة كامنة في جوهر الانسان وأعماقه التي تحمل الحب والسلام، وفي قصيدة (سيرة البرابرة الجدد): مهداة إلى الطفلة الشهيدة روناهي، كأن الشاعر هنا قد فجر ثورة احتجاج كبيرة بقوله:
(البرابرة آتون من ليلٍ كافر
ليقتلوا ضوء البراءة
في طفلةٍ
أعلنت كرديتها في ضفيرة.
البرابرة آتون من موتٍ عنيد
ليمسحوا مقبرة
عُلّقت اسمها
بأغاني الشهداء.
البرابرة آتون من قرآنٍ
محبوسٍ
في معركةٍ كاذبة.
البرابرة آتون من أشواكٍ
أدمت
خاصرة الدين الحنيف).
فالأديب كما يقول عماد الدين خليل: “هو واحد من المدعوين للمارسة الخطيرة بفنه القادر على التأثير والتحصين، بل أنه مدعو أكثر من هذا إلى دعوة المجتمعات الاسلامية لاستعادة ممارساتها الأصيلة وقيمها المفقودة وتكاملها الضائع وتقاليدها الطيبة واحساسها المتوحد وصيغتها الايمانية التي أبهتتها رياح التشريق والتغريب”، فهل يبقى الدين الاسلامي الحنيف أسير للبرابرة الجدد، فالشاعر لقمان محمود بإشارة شعرية باثة قاد ثورة من أجل اظهار وجه الدين الجميل .. وكل رسالات السماء جاءت من اجل الحب واحلال السلام بين الناس .. فليس غريباً على الشاعر أن يرفض كل قبح وكل عنف وتوجيه رسالة تحمل بين طياتها اشارات تنويرية لتصحيح مسار التوجه للتشويه وقلب معالم القيم الانسانية والروحية للانسان ..(فنامي أيتها الوردة/ نامي/ فقد مال “الربيع العربي” عن مساره ؟!.)، وهنا ربط انحراف مسار الدين مع انحراف الثورات الشعبية التي قامت بها شعوب العرب للتخلص من الدكتاتوريات القبيحة، ولكن بالمقابل نجد الشاعر يستمر بالثورة ويدعو جمالياً للتغيير … وربط أيضاً بين الثورات والخبز بقوله:
(قام القمح بثورته الأولى
فكان التنور
ثم تناسلت الثورات
فكانت الأفران
ومنذ ذلك الوقت
وحتى الآن
يعتبر الرغيف
من أهم المنجزات).
هذا الربط بين الحتميات الطبيعية، فكل حركة لابد من نتيجة، وهذا تداخل في النصوص .. يقول الغذامي: (لذا فأن النص المتداخل، هو نص يتسرب إلى داخل نص آخر، ليجسد المدلولات، سواء وعى الكاتب بذلك أم لم يع)، بمعنى الشاعر تناص واجتراح الخميرة التي في داخله، لأجل ترسيخ موقف معين لايتقاطع مع لا وعيه حتى .. وهذه فكرة رولان بارت فيما سماه (النص الجماعي)، يقول الشاعر لقمان محمود:
(بعد أنْ قتل الطاغية
صعد إلى الجبل
و أشعل النار
كعلامة لإنتصاره
فأشعل الشعب المنتظر، أيضاً النيران
لأنَّ الخلاص عيد).
إذن رسخ الشاعر قضية الثورة والخلاص .. ويردفها بقوله – كما في قصيدة “قالت دلشا” -:
في المطر
تتكلّم المظلة أيضاً
لكن بلغة السماء.
هذا الحب قاتل
ورغم ذلك
أحبّه كقتيل.
ما هو غامض
في الحب
:أنه ماءٌ
مكتظٌ بالعطش.
في جنازة الطغاة
حتى مسامير النعش
تكون فرحة.
تزهرُ النّارُ أيضاً
لكن
في قلب فراشة عاشقة).
وهنا اكتملت رؤية الشاعر في الثورة والحرية والحب .. الثورة في احتجاجاته، والحرية في البحث عن الخلاص، والحب “دلشا” التي تمثل له عنوان حياة وأمل .. ومن هنا نقل لنا الشاعر لقمان محمود صور احتجاجاته على محمولات شعرية تفاوتت في القوة والضعف والحضور .. يقول أدونيس: (من هنا كان الشعر أعمق انهماكات الانسان وأكثرها أصالة، لأنه أكثرها براءة وفطرية والتصاقا بدخائل النفس. ومن هنا كان الشعر وسيلة حوار أولي بين الأنا والآخر، ووسيلة ايصال أولي، فهو لانغراسه في أعماق الانسان، فعال وملزم، أنه حميّا تسري في الانسان وتسري، من ثم عبر سلوكه ومواقفه وأفكاره ومشاعره في الحياة والواقع).. لهذا يردد الشاعر بخيلاء:
(في قدميَّ
سأكتشفُ الطرقات البعيدة
فانتبهي أيتها الحياة
عندما أهزُّ غصنكِ
بكل أثقال المسافة.
انتبهي فقط
يا شجرةً ليست لي).
من هنا، سيبقى الشاعر لقمان محمود، بطروحاته الشعرية مثار جدل ومثار أسئلة متوالدة الرؤى .. تحتاج دوماً لقراءات متعددة، محلاة بأكثر من تحليل، وبأكثر من استرداد للمعاني ..
*جريدة الاتحاد