درويشي عفدي بين الواقع التاريخي والملحمة الشعبية

علي شيخو
 
الحكاية الشعبية هي : تفسير شعبي بسيط لوقائع تاريخية ،كانوا الرواة يجهلون مغزى وأهداف ذلك الحدث ، ولهذا السبب كانت تأتي الحكاية قريبة من الإدراك الشعبي . في القصة الشعبية يكون الراوي هو المحرك الأساسي للأحداث ، وهي بشكل عام مخزون للفكر الشعبي البسيط ، تظهر من خلالها أراء الناس العاديين في أحداث عاشوها أو عاصروها أو سمعوا عنها من الرواة
ودائما تكون القصة الشعبية حرة ، قابلة للإضافة والحذف حسب ذوق الراوي وحسب وعيه وإدراكه الفكري والتاريخي، وهنا يكمن الفرق بين الرواية الشعبية لملحمة درويشي عفدي والوقائع التاريخية لهذه الملحمة. الشائع في الفولوكلور الكردي أن درويشي عفدي كان يسعى لكسب ثقة تمر باشا المللي ، من أجل أبنته ( عدولة ) وكان بينه وبين تمر باشا خلاف شديد يمنعه من لقاء عدولة أبنة الباشا ، وعندما كانت الحرب بين الباشا المللي والتحالف العثماني العربي ، كانت فرصة درويشي عفدي أن يكون في بيت الباشا وإلى جانبه وبدعوة من الباشا شخصياً . وقد كانت المصلحة مشتركة في هذه اللعبة الخطرة ، لأن تمر باشا كان يرى في هذه الحرب سبيلاً للخلاص من درويش ، الذي الحق العار به وبالملليين جميعاً في قصة حبه لعدولة . أما الوقائع التاريخية تقول : أن الحرب بين تمر باشا المللي والحكومة العثمانية كانت لأسباب سياسية ومادية ، فالباشا المللي عندما أصبح قوة لا تقهر في قلب الإمبراطورية العثمانية ، والذي شكل جيشاً تجاوز تعداده 70 ألف محارب ، جهزه بالسلاح والعتاد ، وذاع صيته في الإمبراطورية وأصبح رئيساً دون منازع للتحالف المللي الذي كان يتألف من 47 عشيرة وأصبح حاكماً نافذ الكلمة ، يهابه الولاة والمتصرفين في الدولة العثمانية ،وسيطر على جميع الطرق المؤدية إلى حلب وديار بكر والموصل وغيرها من المدن الرئيسية ، وذهبت كل جهود السلطان العثماني عبثاً في السيطرة على هذا الأمير الكردي الذي أوشك في استقلال هذه الإمارة الكردية عن الدولة العثمانية ، وكانت منطقة نفوذه تمتد من أرز روم إلى بيراجيك جنوباً ثم شرقاً إلى جبل عبد العزيز وجبل سنجار في الجنوب الشرقي وشمالاً إلى جزيرة بوتان ودياربكر وكانت عاصمته ويران شهر . امتنع تمر باشا المللي عن دفع الضرائب للباب العالي ولم يدع أحداً من رجال العشائر المللية أن يخدم في الجيش العثماني ، الأمر الذي دفع الحكومة العثمانية الالتفات جدياً إلى الخطر الكردي بزعامة تمر باشا ، فقرر السلطان العثماني تعيين سليمان باشا آل شاوي والي بغداد ورئيس عشيرة العبيد العربية قائداً عاماً للجيوش الزاحفة ضد تمر باشا المللي عام 1791 م . وقد ضم إلى جيشه آلاف من الفرسان غير النظامية من عشيرة الجيس والتركمان ، منهم قوات كوسه مصطفى باشا والي حلب وأوزون إبراهيم باشا والي الرقة وعمر باشا متصرف ملطية . وزحفت هذه القوات إلى ماردين ، حيث واجهت الجيش المللي بقيادة : درويشي عبدي وسعدون باشا أخو تمر باشا ، وحاصروا الجيش المللي في قلعة (بووك ) وعندما لم يستطع الجيش المللي الصمود أمام تلك الجيوش الجرارة أخلى القلعة وتراجع جنوباً ، وأخذ سليمان باشا آل شاوي يعاقب العشائر المللية بقسوة ، حيث أعدم رؤساء العشائر وقادتهم منهم : سعدون باشا أخو تمر باشا ومحمود بك ابن عمه وعين ابراهيم بك أخا تمر باشا رئيساً للعشائر المللية ، وعزل حاكم ماردين من منصبه وأنهك القوة المللية في تلك المنطقة . أما عن الأسماء التي ترد في الملحمة مثل : كوسه وايس وجيل إبرام باشا الأتراك وغيرهم ، فأغلبهم لم يكونوا محاربين وأبطال كما في الملحمة ، فهم أما ولاة أو متصرفين . جيل إبرام هو : إبراهيم باشا والي الرقة ولم يكن محارباً كوسه وايس هو : كوسه مصطفى باشا والي حلب . في الملحمة سعدون يكون أخا لدرويش ، وهو بالعكس أخا لتمر باشا في المصادر التاريخية ، ودرويش عفدي الذي هو عدو تمر باشا في الملحمة الشعبية ، هو قائد الجيش المللي وسند الباشا في المصادر التاريخية . أما (عدولة) حبيبة درويش فهي : رمز الأرض ، رمز الإمارة الكردية التي يجب الدفاع عنها بدمائهم وأموالهم حتى تكون حرة مصانة ، ولم يكن هناك من يدافع عنها سوى قائد جيشها درويش عفدي ، واسم عدولة لم يرد في أي مصدر تاريخي .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

صبحي دقوري

يضع كتاب أزمة العالم الحديث لرينيه غينون قارئه أمام أحد أعمق التشخيصات الميتافيزيقية لانحدار العصر الحديث، تشخيص لا ينطلق من داخل الحداثة بل من خارجها، من أفقٍ تقليدي يرى العالم لا من زاوية التاريخ بل من زاوية المبدأ. غير أنّ هذا التشخيص لا يكتمل فهمه إلا إذا وُضع في موازاة جهود مفكرين كبار واجهوا…

ناصر السيد النور *

يدخل الروائي السوري (الكردي) والطبيب في روايته الصادرة مؤخراً عن دار رامينا اللندنية -هذا العام- إلى تجاويف سردية غائرة بدلالاتها السيكولوجية في تعبير جريء وشاخص لشخصياته روايته التي اتخذت مساراً سردياً يغلب عليه التفصيِّل في شمول سردي يتخطى أحيانا المساحة (الفضاء السردي) المتاح. بافتراض أن التطابق ما بين احالات النص السردي وقيمة…

إبراهيم محمود

تسمية ” الكائن الحي ” تشمل كلَّ ذي نفس وروح. سوى أن هناك تبايناً بين كائن وآخر. ويصبح التباين أوسع، أعمق وأرحب، بما لا يقاس، لحظة التفكير في الإنسان. وحين نقول” إنسان ” يكون العموم. سوى أن الاسم عندما يحل صفة، يكون التمايز قائماً. وعلى طريقة أحدهم: ما أصعب أن يكون المرء إنساناً.اي ذاك…