كنت جالساً بقرب النافذة المنزلية والتي تطل على الحديقة الخاصة لدور الجوار , أطفال بعمر الورود , تتعالى ضحكاتهم لتنشر فرحاً غير عادي , وتتمازج أصواتهم لعباً ولهواً ومرحاً , وألوانهم حتى , ولكنهم يزقزقون كالعصافير فيما بينهم , بلغة واحدة , جمعتهم بودٍ وإخلاص , حيث لا مكان للحقد أو الخوف من أي تعبير مهما كان , وتستمر الابتسامة لتخط خطاً طويلاً لا حدود له , ولا رادع .
ما أحلاك يا أيتها الطفولة البريئة إذا كنت هكذا , وغاصت بي الاْفكار بعيداً , حيث ترعرعت وبلمحة بصر تسارعت الصور والمواقف والأحاديث ,ووجدت نفسي كعصفور يحلق في سماء عامودي, محبتي ومهجتي وكياني وروحي وكلي , فكفكفت دموعي الباردة , وعدت فتساءلت في قرارة نفسي لماذا لم تكن طفولتي أنا أيضاً مثل هؤلاء , لماذا كنت محروماً من الضحك والفرح في أغلب الاْوقات , لماذا كنت محروماً من جميع سبل اللعب واللهو المفيد , فكنت أجد نفسي أنا وبعض من رفاقي , نتراكض في الاْزقة ولنجد أنفسنا وعن غير قصدٍ خارج المدينة , أحياناً بمقبرة الاْحياء أبداً, مقبرة جيل أدمى قلوب أهالي عامودي, حيث نصلها عن طريق القفز بين ضفتي ذاك النهر الذي يحمل بين طياته ألف ذكرى وذكرى , ذاك المتنفس الوحيد لمدينتي الحلوة عامودة , نعم كان نهراً صغيراً ولكن ,صاخباً أحياناً , وكان يقسم مدينتي لقسمين , إنه نهر داري الذي حرمنا منه أيضاً , وما أن نصل المقابر وبشكل غير عادي , نقف أمام المقابر , فتاْخذنا مشاعر غريبة , ونقف لبرهة متاْملين وبسكوت مطبق لنلقي نظرة عامة لمقبرة الاْبرياء الذين استشهدوا جراء المحرقة المبهمة حتى الآن , سينما شهرزاد صرخة المظلومين , رحم الله شهداؤها . ومن ثم لنبدأ هذا فلان وذاك فلان , ونتبارى فيما بيننا بلصق القطع الفخارية على جدران ضريح الشيخ صدقة , ويفرح كثيراً من تلصق قطعته وكائنما سينال مراده حقاً , والآخر يستمر إعادة الكرة حتى يصاب باليأس فيقذفها أرضاً ويندب حظه , وهكذا لنعود ثانية بأدراجنا بعد أن نكسر عطشنا من ذاك البئر الواقع داخل المقبرة , لنقرر في اليوم الثاني ذهابنا بالاتجاه المعاكس , وهكذا لنعبر حارة الملالي ونتبادل الاْحاديث والنكات والتعليقات والركلات لنصل إلى ( كولا عنتر ) , وبين اللعب والضحكات فإذا بجبال طوروس تحرك مشاعرنا وكذلك سكة قطار الشرق السريع , ورويداً رويداً وبدون انتباه لنصل للقرب من تلك القضبان الحديدية ونتأملها , ويسأل بعضنا الآخر لماذا توجد فراغات بين تلك القضبان , وتختلف الإجابات وتنهي بشكل غامض , وبقدوم القطار يبار أحدنا إلى وضع قطعة نقود معدنية , وغالباً ما تكون من فئة الفرنك , ليدهسها القطار ومن ثم نتراكض لنرى كيف أحيلت وتوسعت وترققت , ونتبادل الآراء حول تلك الاْسلاك الشائكة والمحارس والجنود , ولكن دون جدوى , وإذا بأحدٍ منا يأخذ نفساً عميقاً , ويتمتم بأنها لعبة قذرة ونحن ضحيتها , ماذا يعني ذلك بن خت وسر خت , هذا هو الخت ونحن هنا بن خت …..! وما يعني ذالك ….؟ بأن الاْرض واحدة والخت فصلها ولي أقارب هناك …..ولنا أيضاً ………! والله لا أعرف أكثر من ذلك…….. هيا لنعد … وكنت آنذاك ونتيجة لترعرعي بين عائلة مردلية , كانت كلماتي ولغتي الكردية ضعيفة شيئاً ما ……..فبدأ ألذي ذكر الخت وبن خت , بذكر كلمات كردية جديدة على مسامعنا وطلب منا معرفة معانيها , فخجلت كثيراً وحاولت التقرب منه اْكثر فأكثر , فطلبت منه المساعدة إذا كان لديه أية مصادر أو أية كتيبات علني أستفيد منها لتقوية لغتي , فبدأنا المشوار وحدث بيننا رابط قوي , ولكن ودون علمه كنت أستقي بعض المعلومات من مصادر أخرى بطريقتي الخاصة , وهكذا وكبرنا معاً ولعبنا الكرة معاً , وقرأنا البيانات الحزبية معاً ودن أن ننضم إلى أي حزب , وحتى كنا أحياناً نجد في جيوبنا أكثر من بيان ولعدة أحزاب في وقت واحد , ولا أبالغ إذ قلت أحياناً عدة بيانات نأخذها من عدة أشخاص لنكتشف فيما بعد بأنها لحزب واحد , أي أن ولعنا أصبح بأخذ ما نستطيع أخذه من بيانات وكنا نرى ذلك عملاً وطنياً ونتباهى به, ونقوم بدورنا بإعطائها للآخرين وبكل جرأة, وهكذا تعززت الرابطة بيننا وتقوت , ولكن أمور الدراسة أبعدتنا قليلاً , ولكن كنا نلتقي لنتبادل الآراء , ومستجدات الواقع اليومي عن الحركة الكردية بشكل عام , وانضم هو لاْحد الاْحزاب السياسية وبدأ العمل معها , وبقيت أنا كمؤيد عام وخارج التنظيم , وكان له دور كبير في التنظيم , وكانت أغلب أوقاتي في بيته وكما قلت ووضحت بأن خلفيتي الماردلية كانت تسبب له بعض الإ حراجات , وما أن يتم الحوار ولعدة جلسات كان يقتنع من حوله بجدية علاقتنا وتبدأ الاْسارير بالانفراج , ورغم وجود عدة خلافات نظرية فيما بيننا , إنما كانت قلوبنا حميمة كلنا تجاه الآخر , فتعلمت الكردية قراءة وكتابة وإن كانت تشوبها بعض المغالطات .
وهكذا شاءت الاْقدار باْن نلتقي وبعد سنوات طويلة في الغربة , وأول من سألت عنه كان هو , وكم كنت متشوقاً ومتلهفاً لسماع صوته , لأنه في الحقيقة بيني وبينه عشرة عمر وأي عمر , هو أول من شجعني وساهم في تعلمي للغة الاْم وأكن له فضلاً , وبعد جهدٍ وزمنٍ ليس بالقصير , حصلت على هاتفه , وكم كانت فرحتي كبيرة , لأتكلم معه , أو قد تسمح لي الظروف لملاقاته , فركضت إلى الهاتف لاْتصل به , ولم أعد أعرف كيف سأكلمه ,فتتابعت رنات الهاتف وكلي شوق , فرفعت السماعة وإذا بصوت طفلٍ صغير وبلغة ألمانية هالو من أنت …………؟ فتلعثمت هل أخطاْت الرقم …..! فحاولت ثانية , نفس الصوت ونفس الكلام فسألته هل هذا بيت وعائلة فلان , أم أنا مخطئ ………..؟ بالكردية طبعاً ….. فأغلق الخط في وجهي ………! فعدت الكرة لاْنني كلي شوق لمعرفة أخباره , فجاء صوته وبعصبية فضحكت وعرفت عن نفسي , وبحق فرح أيضاً عند معرفته بمن أكون , وأعتذر نيابة عن طفله , قائلاً باْنه لا يعرف الكردية …………….! كيف ذلك …..! ونضالك , وعملك السياسي , كل هذا أين ذهب , وأنت علمتني بأن هويتنا هي لغتنا , وكان لك الدور الكبير في تغيير حياتي يا أخي, فتأفف وببرودة …..! دعك من تلك الاْيام , هنا كل شئ يتغير , علاقاتك ……..لسانك …………أحلامك ………….نضالك………هنا نعيش في مجتمع مغاير لما كنا نعايشه…………!عليك بلإندماج وأخذ مكانٍ لك فيه بشكلٍ لائق , وما عملناه كافٍ , ……………..ولكن اللغة يا أخي , …………أخ ….سيتعلمها فيما بعد …………! ومتى …………؟ عندما يكبر ويذهب بزيارة الاْهل في العطل الدراسية …………! آه …آه ….ليتني لم أسمع هذا الكلام , أصبت بصدمة وجمود لم يفارقني , وليتني لم أكلمه , ولم أسمع رأيه ليبقى في ذاكرتي رمزاً …………..وكأنني كنت أعيش حلماً من أحلام اليقظة……….واأسفاه ………يا أخي لقد آلمتني كثيراً ..!