سيروان شاكر يتقصى الحوار الدائر بين الأشياء

غريب ملا زلال 

لم تبهرني أعمال بقدر ما أبهرتني أعمال الفنان التشكيلي الكردي العراقي سيروان شاكر ( 1968 ) ، أبهرتني بهندسة ألوانها ، و بقيمة هذه الألوان المستخدمة لذاتها ، و وصولها إلى دينامية بصرية تحرك عين المتلقي مع حسه لترميه في رحلة بين حقول الضوء ، فسيروان بذلك يسوق لنا و بتواتر بهائي دور المتلقي في إتمام نسج خيوط حكايته القائمة بذاتها ، و غير الخاضعة إلا لسلطة الضوء ، السلطة التي ستتحول إلى زخارف لونية جاذبة ، و متألقة في جوهرها ، 
فهو أنموذج لا ينتمي إلى قوانين محددة ، بل يقدم مظاهر مرئيّة مختلفة عن السائد ، و يؤكد على إستقلالية عمله إزاء ما يقدم ، فالإنحطاط الحضاري الذي نتنفسه بعمق شديد يجعل الفنان يحطم قيمها ، ليبني لنفسه قيم معرفية جديدة ، قيم فنية تنبض به و بالإنسان الغائب ، الحامل للحكاية و مقامها ، قيم كل ما فيها تدل على وجود مخلوقات هي على قدر ما في حوار مع الأسطورة الأولى لكسر ذلك الحد الفاصل بين الواقع و المتخيل مع إثارة قوته الإنفعالية و تكثيفها ، و يكاد يكون الإنفعال الإنطباعي و الإنفعال الذاتي هما من أهم المعايير التي يعتمد عليهما سيروان في سياقاته و التي بهما يزيد من الحافز الإدراكي الجمالي لمتلقيه و يزودانه بزاد وفير دون أن يهمش أهمية المعايير الأخرى كالنفسي و التاريخي و الإجتماعي و ….. إلخ ، و مع ذلك فسيروان يستخدم غالباً المقاصد الجمالية الغائرة في الطبيعة و في النفس الإنسانية ، و في تقديرنا وجود هذا الكم من الوقائع النشطة اللاموضوعية و التي لها تأثير خفي على درجة و مستوى ذوق متلقيه ، تجعله يلجأ إلى النمط الذي يشتغل عليه ، فهو بفعل البحث و تعزيز هذا البحث يثبت مدى إنخراطه في مقومات الفعل الجمالي و تحويل القيم الإجتماعية إلى قيم معرفية جمالية و لهذا فهو يتقصى الحوار الدائر بين الأشياء دون أن يلغي ما هو قائم في اللاوعي ، بل يمنحه نكهات مختلفة من أصابعه ، و بلغة أدق فسيروان يُحْيي الرقي الجمالي في مشهده البصري و يُظهر مكامن تجلياته من عالمه الإبداعي نحو إجادة التجديد و ما يساعد على الكشف المانح لرؤيته بسر جمالي ، و بدقة الخبير يتهيب لحظة الإنجاز ليؤكد أن العثور على بؤرة الإنفجار في العمل الفني هي بلورة أخرى في إعادة صياغته فنياً ، و ما ذلك إلا إشارات عن العثور على محاولات تسكن توجهاته ذات الصِّلة بمفاهيمه و إستخداماتها ، فهو يعطي دفقة عذبة و قوية لعلاماته و على نحو أخص في تلك الأعمال التي تتعدى أحادية اللوحة ، أي تلك الأعمال التي نفذها في أكثر من لوحة و التي تشكل عملاً واحداً في فصول مختلفة و تعيش أزمنة مختلفة في الوقت ذاته فهو هنا لا يتوقف عند فضاءات اللوحة بعين واحدة بل بأعين كثيرة وفي اللحظة ذاتها و لهذا يراها و نحن معه في زمن متدفق و بألوان متدفقة ، و لا يجد أية صعوبة في إختراق مخيلة المتلقي و إنعاشها بطيب مختلف النكهات .
سيروان يجبرنا على متابعته بأريحية تليق بإبداعاته التي تجبر بدورها الضوء على التفاعل معها بالأريحية ذاتها ، و لهذا يقوم بتلخيص الكثير من مراوغاته الجميلة في صيغ نعتقد أنها تمهيدية نحو ما يشغله من خطط و بحث و تجارب لإنجاز مشروعه الفني المفتوح على التمايز و الدهشة و الذهول ، مشروعه المبصر لعمق و جوهر العمل الفني و دوره في زركشة المشاعر و الأحاسيس و تحميلهما ، مشروعه المنفتح على هاجس تحريك الشأن الفني تمهيداً لتجاوز المألوف ، و إقرار لغة تستوعب نسقه الفني المغلف برؤية التحفيز و التحديث ، و إدخال الفضاء التشكيلي في إنفتاح خططه و خطواته نحو ممرات موثوقة و غير مطروقة مسبقاً ، يرافقه يقظة لونية مرتبطة إلى حد كبير بمدلولاته البصرية بترانيم غنائية جديدة تحمل كل إيقاعات أحاسيسه ، المتوترة و الصاخبة و العاصفة منها ، و الخرافية النبضات الراقدة بهدوء مبهم ، وحينها سيكون لبصمته الأثر في حدود الفعل و الممارسة و كذلك في حدود تخصيب الجمال و التوق لرؤيا ستستمد مفرداتها و مقارباتها من المجال ذاته الذي يخطو سيروان فيه . سيروان الذي ينتمي لتساؤل مفتوح بالنفاذ كالضوء إلى أعماق الروح و لحظاتها القلقة الغائرة في الحياة .‏

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…