غريب ملا زلال
بعد أن أنجز طيب بابان أعماله الثلاثة، أدركت سر تلهفه من الخطوات الأولى، أدركت سر حيويته و نشاطه الزائد، فلم يكن يهدأ، يضع الأساسات لأكثر من عمل، و يشتغل في أكثر من عمل في الوقت ذاته، نعم أدركت سر هذا الإقبال الجميل بعد مشاهدتي لأعماله الثلاثة و هي رصيده في هذا السيمبوزيوم الجميل، بعد إنجازها، فهو الداخل هنا، لا إلى مكان أو صالة فيها سيبدأ بالعمل، بل إلى حقول منها تفوح براءة الوردود و عطرها، حقول تنتظر من وروده أن تزيدها عطراً و جمالاً، فهذا التوق مستنبط من حقيقة يعيشها بابان، فهو لا يخدع نفسه، بل يعيش كما هو و كما يريد، يعيش مع عمله بالإعتماد على أسلوب جدلي دون أن يحتكر دفة الجدال لنفسه، و قد يكون الأصوب أن نقول بأنه يعيش عمله، و عمله يعيش فيه، فهذا التعامل النابع من رؤيته بأن العمل الفني كائن حي، تسمح له بإجتياز كل التخوم المحايدة منها و المنفتحة على التأويل،
فمن ناحية هناك الخيار الأكثر جذرية و الذي يتشبت به بابان كملاذ آمن لعالمه هو تعلقه بخطاب مفتوح تتخلله أولويات غير مربكة، تبرز ذلك من خلال تصويره للعلاقات بين مفرداته و التي تؤلف في المحصلة ظروف ما تجعل سماتها مفتاح منهجه الفني و الذي من خلاله قد يأخذ في الحسبان مقولة الأمانة للتفاصيل لا كمبدأ في حد ذاته، بل كدفاع عن سمة جوهرية في كسر الحدود بين الواقعية و الطبيعية، و من أجل ذلك فبابان كان لا بد أن يكون صادقاً، أميناً لتصويراته الساطعة المرتبطة عميقاً بالحياة و تعميماتها، فهو ينظر إلى التفصيلات كأحد عناصر الأشياء من حوله، و هو مولع بذلك، فإدخال مخيلته الشخصية في جلب تصوراته يقوده بشكل حتمي إلى عدم حذف تفاصيل معاناته الروحية منها و النفسية، بل يجسدها في إبراز السمات الفردية المميزة في أعماله، كسمات يمكن أن توصف بها كنوع من الجمال أشكاله بملامحها الخاصة، و ليس غريباً و لا صعباً أن نلاحظ أن الرومانتيكي و الكلاسيكي يلتقيان عنده في سعيهما إلى التجسيد المثالي للجمال، كخلفية للحياة الإنسانية و حقيقة من حقائقها، و ما إختياراته لبنائه الفني المرتبطة قبل كل شيء بأشكال سيرورة تلك الحياة المصورة من قبله إلا سر غناه و تنوعه اللامحدود للإمكانيات التي يتمتع بها و كأنه على شفا من وصية فيودور دوستويفسكي في هذا الصدد حين قال : ” تذكروا وصيتي لكم، لا تبتدعوا مواضيع و مغامرات، بل خذوا ما تقدمه لكم الحياة، فالحياة أغنى من كل تخييل و إبتداع، و لن يبتدع أي خيال مهما كان ما يمكن أن تعطيه أحياناً الحياة العادية البسيطة، احترموا الحياة .. ” .
كنت أراقب طيب بابان حين كان يلاحق اللحظات في إطارها العام، أقرأ ملامحه المضمخة بعرق يبلل جبينه، كان سريع الإنقضاض على البياض، و كأنه لم يفحصها و لم يقف أمامها كشاهد على ما ستلد من تشكيلات و نماذج، فهو يورد الجزئيات بداية، و يوظف المعاني لاحقاً حتى يبدأ الحدث بالتعزيز، و هو يحمل رؤية تليق بإندفاعه الكبير، يسخرها في طرح مقولات بإجراءات غير تقليدية ليخوض غمار نتيجة حاسمة، فهو يعيش توقعاته و يمضي إليها مقارباً موضوعاته بمهارات لونية قادرة على فهم ما يود قوله، أو على الأقل الجوهري منها، بوصفها وسيلة ممكنة لتحرير طاقاته، لذلك إن قراءته أقصد قراءة ثلاثيته المنجزة هنا، في هذا السيمبوزيوم من شأنها أن تمنحنا المتعة المطلوبة و يحقق هذا التأثير فينا بإلمامة تعبيرية لأفكاره و بتقاطع ما أو لنقل نسبي مع الحساسيات التقليدية المألوفة، فهو قادر على إثارة العواطف و تخصيب الحياة وفقاً للبعد التأويلي و للتماسك في البنى المنتشرة حول نقاط يسيطر عليها تماماً، و هذا يضمن له بعدم عزل خيط الإستبدالات الذي يجعل من كشوفاته مدلولات عالية لا تتهاوى، بل تعكس على إمتداد الزمن حالات أو لحظات معينة من نشاطاته الدالة على ولعه الكبير بمشهده الجمالي .
طيب عبدالرحمن بابان
– من مواليد 1976 مدینة السلیمانیة
– أقام عشرون معرضاً شخصیاً داخل و خارج الوطن .
– شارك في سیمبوزیوم باسترالیا في مدینة ادلاید
له مشاركات في معارض جماعية كثيرة