ابراهيم محمود
لم يدخل العدو من حدودنا قد دخل العدو من عيوبنا «نزار قباني »
قيل: في البدء كان الكلمة، وقيل لاحقاً: في البدء كان الفعل، وبين البدء الأول، والبدء الثاني، سلسلة من البدئيات، ترتد إلى كل من الكلمة والفعل، فأن يكون في البدء الكلمة( والكلمة تكون الله) دينياً، ولكنها تكون العامة، الدالة على تاريخها غير المدوَّن، وأن يكون البدء الفعل، والفعل هو ذاته ما صير إلهاً، ولكنها، بالمقابل، تكون المتضمنة لخاصيات الممارسة، على الممكن العودة إليه، التأكد منه، لأن ثمة ما يمكن إخضاعه وثائقياً، أو تحليلاً متعدد الجوانب، لتبيان ما يكونه الفعل هذا، فلا يكون فصلٌ تفاوتي، تراتبي، فالقيُّ المقام، بين الكلمة والفعل، إنما هو الدور، ولحظته الزمنية، والمأمول منه، في حلبة المعترَك التاريخي والثقافي: كلمة وفعلاً معاً !
وإذا كان لي أن أقيم علاقة أوطد بين الكلمة والفعل، وباعتبارها ترتبط بتاريخ متعدد الأوجه، وعلى الصعيد الكردي، يمكنني أن أتحدث، في منحى مختلف، أن أظهر بعداً مركَّباً آخر، في صميم العلاقة، أو ثنائيتها، تلك التي تشير إلى أن ثمة خطوطاً تتحدد، أكثر من كونها مرئية.
في سياق العلاقة المراكّ[ة، من وإلى الكلمة والفعل، أشير إلى الثالوث المحرم المعروف( يمكن الاستنارة حول ذلك، بقراءة ما كتبه المفكر السوري الراحل بوعلي ياسين، في : الثالوث المحرم، ولو أنه بات كلاسيكياً)، وهو:
الدين، والجنس والسياسة، إذ المعلوم، أنه في قراءتنا للتاريخ (ليست قراءتي أنا وحدي)، يكون ثمة حظر، نهي عن التحدث في موضوع ما، وبمطلق الراحة، أو حتى في الحدود التي يشعر المرء أنه يمارس حريته النسبية، لأن ثمة سقفاً، ستطلب منه، أن يكون أكثر طأطأة لرأسه:
أن يراعي (حرمة) الدين، وهي معنونة، مثلما هي مشكَّلة، من قبل آخرين، هم أولو أمر الدين ذاك، وأنه هو ذاته، داخل في نطاق التوجيه الديني، ومحكومه بأوامره ونواهيه.
وثمة حظر، نهي عن الاقتراب مما هو جنسي، حتى لا يكون تعرضٌّ لعقاب، تتنوع درجاته، بحسب الإثم الموسوم، وأن هذا التحديد يتجاوز المعني، أي يتعلق بأولي أمره بالمقابل.
وثمة حظر آخر، ثالث، يتركز على السياسة، فهذه تمثل السقف الأعلى، مثلما تعتبَر الأرض الأكثر انزلاقاً، وضرورة توخّي الحذر، لحظة السير فيها، والقصد بهذا، تجنب التحدث في أمور تخص المجتمع، من باب منح الذات قيمة، تخص المعنيين به، أو يكونون القيّمين عليه.
وبهذا الشكل، يكون الثالوث بنية واحدة، فالديني ينعطف على الجنسي، مثلما أن هذين يستشرفان السياسي، وليس في وسع أي كان، أن يكون أياً من هذا الثالوث دون حضور الآخرين.
ولكن الموضوع المتعلق بالثالوث ذاك، عند الكرد، وكما هو الكردي المختلف، لا بد أن يكون الموقف مغايراً، لهذا، أجدني في مواجهة أخرى، تظهر ثالوثاً مقابلاً لهذا الثالوث التاريخي ، وكما هو معنون:
الفكر مقابل الدين
الأدب مقابل الجنس
الفن مقابل السياسة
وإذا كنت قد أتيت معرفياً، وباقتضاب، على المتصرَّف بالثالوث (الأصلي)، وما يوجد في نطاقه من حظر موسوم، أو تصرف معلوم أو مجهول، فإنني أجدني، في مواجهة البنية التركيبية للثالوث المتحرك، وكما هو منظور، من قبلي، كرديا !
من وراء باب الحارة الكردية:
نعم، أستعين بـ( باب الحارة)، الباب الخشبي، السميك، الكبير، الذي يحجز ما وراءه عالماً كاملاً، مجتمعاً محسوباً في عداد المجتمعات الحية، أو الباب يقيم فصلاً مرعباً بين عالمين: عالم الأزقة الضيقة، والزواريب، وبرم الشوارب، والأعراف المتوارثة، والأمية المباركة، وعالم الانطلاق غير الموسوم والمعلوم، كما لو أنه غير موجود، وحتى رؤية السماء من علٍ تكون حالة ندرة، وهذا أمر له دلالته، إنها البوابة الكبرى، وهي ذاتها تمثل بوابة الحارة الكردية الجديرة بالمقارنة، في أتم صورها من الشفاهية، ووجود ( الزكرتية)، أصحاب الشنبات العريضة توصيفاً رمزياً، والـ(أبي شهابية)، وما عدا ذلك عدمٌ في عدم، كما لو أن سريان فعل التاريخ غير ممكن النطق به هناك مطلقاً ، وكما في الحارة الكردية المتعددة الجهات، حيث الفكر محظور، بالطريقة التي يكون العالم الواقع خلف البوابة الكبرى ممكناً التحدث فيه، وكذلك الأدب، ليكون إلهاب الأكف، هو الكافي والوافي، وهكذا
وبالنسبة للفن، ليكون لعوبياً طروبياً شبوبياً، وليس تفجيراً للمكبوت !
نعم، أتحدث عن مجتمع الحارة( الكردي)، ولو أنه المجتمع المأخوذ بسواه، ومحسوب على سواه، وداخل في سواه، وإن كان له حضور في التاريخ، ممكن حسبانه في ذاته، مثلما يمكنني في هذه المادة الكتابية النقدية الكردية، ولو بلغة سواها، والمسترسَلَة، عما يجري في صميم مجتمعها المحسوب عليها( حارتها)، مثلما يمكنني التشديد أكثر، وهو أنني أتحدث عن (عشب الحوش المر)، كما يقال ( Ez diaxivim li ser giyayê hewşê li ser giyayê tal)، وما يمكن تبصرته في الحارة الدوارة على ذاتها، في حوزة الثالوث المحرم:
في الفكر، ممنوع، أو محظور، أن يفكر الكردي، في الحدود التي تستثير( عش زنابير) أولي الأمر، من الكرد، حين يجدون أنفسهم، في مواجهة، لن يتعودوا عليها، وهم لم يهيئوا، ولن يهيئوا أنفسهم لهذا التناظر المعتبَر تقليلاً من مقامهم الاستثنائي، فيكون كل تفكير، خارج الثكنة التحزبية، ومن يقيم في الجوار، مستدعياً (كَرت) نفير، في الوسط المأخوذ بهذه الأوليائية الفارضة، ومحاولة الزج بالمفكّر على طريقته، في خانة التتويه والتقريع والتمثيل باسمه .
يلتقي الفكر بالدين، والذي يري العابد دون المعبود، يبرز نفاذ قوة الأخير، لجعل العابد مسكوناً بالخوف منه، والتفكير المقيَّد لجم للذات، وإلحاق بصاحبها، للمتقدم عليه بالمكر المشرعن.
في الأدب، لا يجب أن تأتي كتابة أدبية، وفي الشعر خصوصاً (ذاكرة الكردي الجريحة)، كما لو أن الطريق القولي، أو الكتابي الأدبي، سالك بسهولة، بالنسبة للأديب، على الأديب أن يراعي اعتبارات عدة، تبقيه الناطق الأديب، والمتحرك في ظل المعني بأمره، وليس أكثر من ذلك.
في الفن كذلك، لا ينبغي للفنان، أن يتنشط إلا باعتباره الممثل الظلي للمتنفذ الكردي، المتلقي منه، ما يريد له أن يكون، ليظل مقام المتنفذ ذاك، في وجاهته التليدة، قابلاً للتجديد .
وإذا كان الكرد متقدمين باختلافهم عن سواهم، وهذا حقهم، في أمور كثيرة مصيرية طبعاً، فإنني هنا، أشير إلى اختلافهم المختلف هنا مجدداً، اختلافهم إزاء أنفسهم، بالنسبة للثالوث المذكور، ولتصدق رؤية الكثير فيهم، ممن يكونون في عالم آخر، مفتوح، وحتى في الحارات المجاورة لهم، والأكثر رحابة
فالكرد، في جملتهم، في جملة الذين يعنون بتسيير مصائرهم، مؤمنون كثيراً لحساب غيرهم، ملحدون كثيراً لحساب أنفسهم، بالنسبة لطريقة تعاملهم مع الآخرين ومع ذواتهم.
والكرد في جملتهم، في جملة الذين يعنون بأمرهم ، ثانية، سلسون مع غيرهم، كما هو تاريخهم المنهوب، أشداد على بعضهم بعضاً، كما يشهد عليهم تاريخهم الشفاهي والمدوَّن أيضاً.
والكرد الذي تلهج ألسنتهم بذكر رموز الآخرين إبداعاً، يكونون في جملتهم، عبَّادي العنف السيء الصيت محيطياً، متشنجون إزاء الفكر الطليق، والأدب الكاشف، وكذلك الفن الجدير باسمه، بالنسبة لمن يعنيهم كردياً ابن كردي.
وفي الوقت الذي يعرفهم الكثيرون خارج لغتهم، خارج مشتركهم الحاراتي،على أنهم يحسنون التفكير، يحسنون الإبداع الأدبي، يحسنون المضاء الفني، فإنهم يقلبون القاعدة فيما بينهم، حين يحيلون المفكر، كما الأديب الأديب، والفنان الحق، إلى الخارج سلباً، جهة التعامل معهم، حين يوجهون أردياءهم،، من هم معتبَرون في ظل أولي الأمر، ليكونوا لهم بالمرصاد تشويهاً، وإذا كان من طبيعة أي مفكر، كما من طبيعة أي مبدع، أن يتحلى ببعض مزايا الإلحاد (أي أن يقول وأن يتصرف خلاف الآخرين، طالما أن اتباع خط أولي الأمر التزام بالقانون الزواريبي)، فإن العلاقة، كما أرى، تظهر أكثر وضوحاً، وهو وقوع من سميته بين مطرقة الآخر: الغريب، حين يشهَّر فيه، لأنه منبوذ الحارة، طريدها النسبي، على الأقل، وسندان الأهلي الأوصيائي، حين تضيَّق عليه حلقة التفكير والإبداع، ويُدفع به إلى أن يكون مواطن برياً، كما يقال .
وهنا، يمكن تلخيص مجمل ما قيل، حتى الآن، في المقولة التالية:
كن كما يراد منك أن تكون، ولا تكن كما تريد أن تكون !
ثمة أمثلة كثيرة، يمكن التعرض لها، وتأكيد مفارقاتها، في إطار المشار إليه . إنها أسماء، لها حضورها التاريخي، ولو أنها عاشت بؤس تاريخ أولي أمرهم ، كما هو العرف الكردي المتوارث في الغالب الأعم، أسماء تتوزع داخل الثالوث المذكور كرديا ً :
جكرخوين ( 1903-1984) ، ونورالدين ظاظا ( 1919-1988)، ومحمد شيخو( 1948-1989)، ومحمد أوزون ( 1953-2007)!
في المنحى الفكري يصعد اسم نورالدين ظاظا !
في المنحى الأدبي، يصعد اسم كل من جكرخوين ومحمد أوزون
في المنحى الفني، يصعد اسم محمد شيخو!
الأربعة” أمثلة” تميزوا بما يلي :
الصدام مع الواقع الاجتماعي والنفسي والعشائري المهدّد لهم.
تذوقُ مرارة النفي بين بني جلدتهم، وبتفاوت، ليس بالكبير طبعاً، قبل الغرباء.
التعرض لآلام الغربة أو المنفى، وما يمكن أن يقال في حقهم، استمراراً للموقف الأول. إذ كانت الخطوة العارية لكل منهم، ولكنها المقدامة، ضامنة لإبراز حسن سلوك كل منهم، لأنهم بنوا أنفسهم ذاتياً، ولهذا الأرض بهم، مثلما أنهم ضاقوا بفضائها، فكان التحليق.
إن ما تركوه خلفهم، هو الذي يدل عليهم، فيما تجلى به نورالدين ظاظا، وهو في أوج نشاطه الفعلي، ليتم كبح جماحه الفكري المتوثب، بمقاييس عدة، داخل حارته وفيما تتبدى عليه فصائد كثيرة لجكرخوين، من جهة أنه لم يستطع فعل شيء يستحق الذكر، رغم مرور خمسين عاماً، على عهده بالكفاح اليومي والأدبي،وفيما ظهر فيه محمد شيخو بشجنه الموشّح لأدائه الغنائي، ووضعه، وأخيراً، وليس آخراً، فيما تقوله نصوص مختلفة لمحمد أوزون، حول معاناته الكردية الكردية، كما في ( صرخة دجلة) روايته الأعظم بانورامية( وهو الذي سأتعرض له، في بحث مطوَّل، وكيف تم الاهتمام به، وما وراء هذا الاهتمام، في المجتمع المهدور للحارة الكردية هذه، لاحقاً).
في سياق العلاقة المراكّ[ة، من وإلى الكلمة والفعل، أشير إلى الثالوث المحرم المعروف( يمكن الاستنارة حول ذلك، بقراءة ما كتبه المفكر السوري الراحل بوعلي ياسين، في : الثالوث المحرم، ولو أنه بات كلاسيكياً)، وهو:
الدين، والجنس والسياسة، إذ المعلوم، أنه في قراءتنا للتاريخ (ليست قراءتي أنا وحدي)، يكون ثمة حظر، نهي عن التحدث في موضوع ما، وبمطلق الراحة، أو حتى في الحدود التي يشعر المرء أنه يمارس حريته النسبية، لأن ثمة سقفاً، ستطلب منه، أن يكون أكثر طأطأة لرأسه:
أن يراعي (حرمة) الدين، وهي معنونة، مثلما هي مشكَّلة، من قبل آخرين، هم أولو أمر الدين ذاك، وأنه هو ذاته، داخل في نطاق التوجيه الديني، ومحكومه بأوامره ونواهيه.
وثمة حظر، نهي عن الاقتراب مما هو جنسي، حتى لا يكون تعرضٌّ لعقاب، تتنوع درجاته، بحسب الإثم الموسوم، وأن هذا التحديد يتجاوز المعني، أي يتعلق بأولي أمره بالمقابل.
وثمة حظر آخر، ثالث، يتركز على السياسة، فهذه تمثل السقف الأعلى، مثلما تعتبَر الأرض الأكثر انزلاقاً، وضرورة توخّي الحذر، لحظة السير فيها، والقصد بهذا، تجنب التحدث في أمور تخص المجتمع، من باب منح الذات قيمة، تخص المعنيين به، أو يكونون القيّمين عليه.
وبهذا الشكل، يكون الثالوث بنية واحدة، فالديني ينعطف على الجنسي، مثلما أن هذين يستشرفان السياسي، وليس في وسع أي كان، أن يكون أياً من هذا الثالوث دون حضور الآخرين.
ولكن الموضوع المتعلق بالثالوث ذاك، عند الكرد، وكما هو الكردي المختلف، لا بد أن يكون الموقف مغايراً، لهذا، أجدني في مواجهة أخرى، تظهر ثالوثاً مقابلاً لهذا الثالوث التاريخي ، وكما هو معنون:
الفكر مقابل الدين
الأدب مقابل الجنس
الفن مقابل السياسة
وإذا كنت قد أتيت معرفياً، وباقتضاب، على المتصرَّف بالثالوث (الأصلي)، وما يوجد في نطاقه من حظر موسوم، أو تصرف معلوم أو مجهول، فإنني أجدني، في مواجهة البنية التركيبية للثالوث المتحرك، وكما هو منظور، من قبلي، كرديا !
من وراء باب الحارة الكردية:
نعم، أستعين بـ( باب الحارة)، الباب الخشبي، السميك، الكبير، الذي يحجز ما وراءه عالماً كاملاً، مجتمعاً محسوباً في عداد المجتمعات الحية، أو الباب يقيم فصلاً مرعباً بين عالمين: عالم الأزقة الضيقة، والزواريب، وبرم الشوارب، والأعراف المتوارثة، والأمية المباركة، وعالم الانطلاق غير الموسوم والمعلوم، كما لو أنه غير موجود، وحتى رؤية السماء من علٍ تكون حالة ندرة، وهذا أمر له دلالته، إنها البوابة الكبرى، وهي ذاتها تمثل بوابة الحارة الكردية الجديرة بالمقارنة، في أتم صورها من الشفاهية، ووجود ( الزكرتية)، أصحاب الشنبات العريضة توصيفاً رمزياً، والـ(أبي شهابية)، وما عدا ذلك عدمٌ في عدم، كما لو أن سريان فعل التاريخ غير ممكن النطق به هناك مطلقاً ، وكما في الحارة الكردية المتعددة الجهات، حيث الفكر محظور، بالطريقة التي يكون العالم الواقع خلف البوابة الكبرى ممكناً التحدث فيه، وكذلك الأدب، ليكون إلهاب الأكف، هو الكافي والوافي، وهكذا
وبالنسبة للفن، ليكون لعوبياً طروبياً شبوبياً، وليس تفجيراً للمكبوت !
نعم، أتحدث عن مجتمع الحارة( الكردي)، ولو أنه المجتمع المأخوذ بسواه، ومحسوب على سواه، وداخل في سواه، وإن كان له حضور في التاريخ، ممكن حسبانه في ذاته، مثلما يمكنني في هذه المادة الكتابية النقدية الكردية، ولو بلغة سواها، والمسترسَلَة، عما يجري في صميم مجتمعها المحسوب عليها( حارتها)، مثلما يمكنني التشديد أكثر، وهو أنني أتحدث عن (عشب الحوش المر)، كما يقال ( Ez diaxivim li ser giyayê hewşê li ser giyayê tal)، وما يمكن تبصرته في الحارة الدوارة على ذاتها، في حوزة الثالوث المحرم:
في الفكر، ممنوع، أو محظور، أن يفكر الكردي، في الحدود التي تستثير( عش زنابير) أولي الأمر، من الكرد، حين يجدون أنفسهم، في مواجهة، لن يتعودوا عليها، وهم لم يهيئوا، ولن يهيئوا أنفسهم لهذا التناظر المعتبَر تقليلاً من مقامهم الاستثنائي، فيكون كل تفكير، خارج الثكنة التحزبية، ومن يقيم في الجوار، مستدعياً (كَرت) نفير، في الوسط المأخوذ بهذه الأوليائية الفارضة، ومحاولة الزج بالمفكّر على طريقته، في خانة التتويه والتقريع والتمثيل باسمه .
يلتقي الفكر بالدين، والذي يري العابد دون المعبود، يبرز نفاذ قوة الأخير، لجعل العابد مسكوناً بالخوف منه، والتفكير المقيَّد لجم للذات، وإلحاق بصاحبها، للمتقدم عليه بالمكر المشرعن.
في الأدب، لا يجب أن تأتي كتابة أدبية، وفي الشعر خصوصاً (ذاكرة الكردي الجريحة)، كما لو أن الطريق القولي، أو الكتابي الأدبي، سالك بسهولة، بالنسبة للأديب، على الأديب أن يراعي اعتبارات عدة، تبقيه الناطق الأديب، والمتحرك في ظل المعني بأمره، وليس أكثر من ذلك.
في الفن كذلك، لا ينبغي للفنان، أن يتنشط إلا باعتباره الممثل الظلي للمتنفذ الكردي، المتلقي منه، ما يريد له أن يكون، ليظل مقام المتنفذ ذاك، في وجاهته التليدة، قابلاً للتجديد .
وإذا كان الكرد متقدمين باختلافهم عن سواهم، وهذا حقهم، في أمور كثيرة مصيرية طبعاً، فإنني هنا، أشير إلى اختلافهم المختلف هنا مجدداً، اختلافهم إزاء أنفسهم، بالنسبة للثالوث المذكور، ولتصدق رؤية الكثير فيهم، ممن يكونون في عالم آخر، مفتوح، وحتى في الحارات المجاورة لهم، والأكثر رحابة
فالكرد، في جملتهم، في جملة الذين يعنون بتسيير مصائرهم، مؤمنون كثيراً لحساب غيرهم، ملحدون كثيراً لحساب أنفسهم، بالنسبة لطريقة تعاملهم مع الآخرين ومع ذواتهم.
والكرد في جملتهم، في جملة الذين يعنون بأمرهم ، ثانية، سلسون مع غيرهم، كما هو تاريخهم المنهوب، أشداد على بعضهم بعضاً، كما يشهد عليهم تاريخهم الشفاهي والمدوَّن أيضاً.
والكرد الذي تلهج ألسنتهم بذكر رموز الآخرين إبداعاً، يكونون في جملتهم، عبَّادي العنف السيء الصيت محيطياً، متشنجون إزاء الفكر الطليق، والأدب الكاشف، وكذلك الفن الجدير باسمه، بالنسبة لمن يعنيهم كردياً ابن كردي.
وفي الوقت الذي يعرفهم الكثيرون خارج لغتهم، خارج مشتركهم الحاراتي،على أنهم يحسنون التفكير، يحسنون الإبداع الأدبي، يحسنون المضاء الفني، فإنهم يقلبون القاعدة فيما بينهم، حين يحيلون المفكر، كما الأديب الأديب، والفنان الحق، إلى الخارج سلباً، جهة التعامل معهم، حين يوجهون أردياءهم،، من هم معتبَرون في ظل أولي الأمر، ليكونوا لهم بالمرصاد تشويهاً، وإذا كان من طبيعة أي مفكر، كما من طبيعة أي مبدع، أن يتحلى ببعض مزايا الإلحاد (أي أن يقول وأن يتصرف خلاف الآخرين، طالما أن اتباع خط أولي الأمر التزام بالقانون الزواريبي)، فإن العلاقة، كما أرى، تظهر أكثر وضوحاً، وهو وقوع من سميته بين مطرقة الآخر: الغريب، حين يشهَّر فيه، لأنه منبوذ الحارة، طريدها النسبي، على الأقل، وسندان الأهلي الأوصيائي، حين تضيَّق عليه حلقة التفكير والإبداع، ويُدفع به إلى أن يكون مواطن برياً، كما يقال .
وهنا، يمكن تلخيص مجمل ما قيل، حتى الآن، في المقولة التالية:
كن كما يراد منك أن تكون، ولا تكن كما تريد أن تكون !
ثمة أمثلة كثيرة، يمكن التعرض لها، وتأكيد مفارقاتها، في إطار المشار إليه . إنها أسماء، لها حضورها التاريخي، ولو أنها عاشت بؤس تاريخ أولي أمرهم ، كما هو العرف الكردي المتوارث في الغالب الأعم، أسماء تتوزع داخل الثالوث المذكور كرديا ً :
جكرخوين ( 1903-1984) ، ونورالدين ظاظا ( 1919-1988)، ومحمد شيخو( 1948-1989)، ومحمد أوزون ( 1953-2007)!
في المنحى الفكري يصعد اسم نورالدين ظاظا !
في المنحى الأدبي، يصعد اسم كل من جكرخوين ومحمد أوزون
في المنحى الفني، يصعد اسم محمد شيخو!
الأربعة” أمثلة” تميزوا بما يلي :
الصدام مع الواقع الاجتماعي والنفسي والعشائري المهدّد لهم.
تذوقُ مرارة النفي بين بني جلدتهم، وبتفاوت، ليس بالكبير طبعاً، قبل الغرباء.
التعرض لآلام الغربة أو المنفى، وما يمكن أن يقال في حقهم، استمراراً للموقف الأول. إذ كانت الخطوة العارية لكل منهم، ولكنها المقدامة، ضامنة لإبراز حسن سلوك كل منهم، لأنهم بنوا أنفسهم ذاتياً، ولهذا الأرض بهم، مثلما أنهم ضاقوا بفضائها، فكان التحليق.
إن ما تركوه خلفهم، هو الذي يدل عليهم، فيما تجلى به نورالدين ظاظا، وهو في أوج نشاطه الفعلي، ليتم كبح جماحه الفكري المتوثب، بمقاييس عدة، داخل حارته وفيما تتبدى عليه فصائد كثيرة لجكرخوين، من جهة أنه لم يستطع فعل شيء يستحق الذكر، رغم مرور خمسين عاماً، على عهده بالكفاح اليومي والأدبي،وفيما ظهر فيه محمد شيخو بشجنه الموشّح لأدائه الغنائي، ووضعه، وأخيراً، وليس آخراً، فيما تقوله نصوص مختلفة لمحمد أوزون، حول معاناته الكردية الكردية، كما في ( صرخة دجلة) روايته الأعظم بانورامية( وهو الذي سأتعرض له، في بحث مطوَّل، وكيف تم الاهتمام به، وما وراء هذا الاهتمام، في المجتمع المهدور للحارة الكردية هذه، لاحقاً).
الارتقاء الاسمي وتزويره تاريخياً كرديا ً:
بالنسبة لشاعرنا سيدا جكرخوين، حيث يحضَّر للاحتفال به راهناً، كعادة الكثيرين من المقيمين في الظل الأوليائي، ما الذي يربطه بمجمل هؤلاء المحتفين به كل عام؟ ساسة في الغالب، محتضني لغة الأدب في الأعم الأغلب مجدداً، وهم في الظل المحرق، سوى أنهم يحيونه ليذيقوه ما لم يتذوقه مرارة أكبر في حياته، وهو الذي هرب بجلده، ورحل، وهو في الحرمة السويدية، ثم هتِف باسمه، وحمِل على الأكف، وصار له مزار، ليكون للمعنيين بأمره، ما استشعروه ضرورة لإبراز مكانتهم من خلاله، دون أن يحسن المقاطعة، فلا يُبحَث في روحه التي عاشت وجعاً مديداً، ولا في روحه المهدورة كثيراً، ولا في شعره الذي أزهَق فيه الكثير، الشعر الذي أريد له أن يبقى في عداد الملهِب للأكف كذلك، ولا في مذكراته التي اهدرِت مصداقيتها التاريخية كثيراً، وكيف حصل ما حصل. لقد صار جكرخوين فوق التاريخ، فيا لبؤسه الموجَّه، وموته، وألمه المستعاد كل عام، ليكون هنا ذلك البروليتاري القومي الكردي الأكثر قابلية لأن يمثل في روحه المتبقية، بعد الاغتراب، وحرقة المنفى، ورؤية العالم من وراء الحدود المفتوحة هناك ، هناك..
بالنسبة لمفكرنا نورالدين ظاظا، كان الأقربون، من ذوي المكانة الأوليائية، الوجاهية ، بدورهم، أَولى في أن يذيقوه مر العذاب، أن يظهروا له أنه جدير في أن يكون الطريد والشريد باسمه ومقامه، طريد الحزب العتيد، وأي دوي صوت لطرد معتبر من هذا النوع، لئلا يشعر المحيطون به، أن صوت المفكر، يطغى على صوت لا يحسن تعبيراً ، كما يقتضي التاريخ الحدثي، أن يرحل سريعاً، أو بعيداً عن مسقط رأسه الكردستاني، ليُهلَّل له بدوره لموته السويسري الطابع، وليتعمد كردياً، وعن بعد: شهيد الكردايتي، وهو الذي سيّر خائناً، وجيّر تاريخاً، وليتم التخلص من ( عش الزنابير)، بالطريقة الأنسب لأولي الأمر، من خلال فورة الدم الكردية البراغماتيكية، حيث الاحتفاء به، مؤخراً، لأنه يلزم هنا، ولئلا يزعم زاعم، أن الكرد ليس في مقدورهم إيجاد مفكر، ولو كان ذلك على حساب التاريخ، وأرشيف القمار التحزبي الكردي، أي أن يكون الفكري هنا، في مقام المخصي، ما لا يمكن تحديده، ألا من خارجه ..
وبالنسبة لفناننا الكبير محمد شيخو، كان هو الآخر، رهين اللحظة العاطفية، ضحية حبه الشديد لما كان يريد تمثيله، وهو يشد خطواته وراءه، مجرباً، رغم أنفه، عنف المسافات، قاطعاً (الماء الكبير) أكثر من مرة، أن يصل إلى الحد الأقصى من الشرق الكردستاني، منذ أكثر من ربع قرن، وأن تدفع به لوعته التاريخية، وكفنان ينزف روحه في غنائه، إلى حيث قامشلو، ليكون منفى متجدد، وليموت، ويكون لموته دوي كوني، إذ يهلل الجوقة الكبيرة من المنتظرين موتاً نوعياً كهذا، موت فنان، ليحمَل كغيره، على الأكلف، غير مصدَّق متى يدفَن، لتقرأ الكلمة الجاهرة، والمشاعر الخلبية الجاهزة، والروح المتخشبة الجاهزة، والمناسبة المحضَّر لها، كل سنة، جاهزة بدورها، ويكون موته، وتجديد موته، ليتجدد منفاه، حتى وهو في قبره، حيث لا يراد إلا ذلك الطرب الذي يمكن للمرأة الكردية المعتبرة، أن تبرز مفاتنها في هز بطنها ومؤخرتها، في الرقصة الشعبية الكردية المتوارثة، كما يمكن لولي الأمر المعتبر، أن يثبت منافسة، في هز مؤخرته شعبوياً، لتأكيد بنوته وأبوته معاً لما هو كردايتي، وما عدا ذلك، ما لا لزوم له قطعاً .
أما روائينا الكبير، محمد أوزون، والذي رحل حديثاً، فهو الآخر، كان بين موتين، أحلاهما موت، موت، ملاحَق باسمه من خلال الذين يعتبرونه كردياً، وكان هكذا، وموت يترصده، من خلال الذين يتلمسونه فيه، الكردي الخارج عما هو قطيعي، وليأتيه الموتى تحرراً من ربقة ما، ولتبقى الأرض، أرضاً مغلولة إلى روحه، وهي تنبض، على طريقتها، وكما رأها، في ثنايا كلمته، وفعله الكرديين، وقد كان المنفي اعتباراً، والمعرَّض لتهم شتى، في ذات كرديته، وعندما يموت، ينتشر الدوي الآخر، لموت كاتب موقَّر، يلزم، لاستكمال نصاب الجوقة الكردية: تحزبياً، وتكتلياً، واستعراضياً في الحالتين، وكما هو الممكن تتبعه، وتحري أبعاد حياته وموته، وكيف تم الاهتمام به ليكون موت أوزون، في الوقت المناسب، لأولي أمر مناسبين، من جهة تسويق الكردية، في الجهة الأكثر انتحاراً، لأن في هذه الجهة، ينعدم الفكر المتبصر، والأدب المتنور، والفن المتحرر، من الآبائية المتعددة المقامات !
في المجمل، قد يكون الرابط في غير محله، والعلاقة تنافرية، وأنا أقول، لا بأس في ذلك، فأنا راصد البوابة الكبرى، حاملٌ لمجتمع الحارة الزواريبي كثيراً، كما قلت، في نفسي وذهني، لأؤكد على مدى التداخل الكبير، وسهولة المقايسة:
عندما يستحيل الفكر جملة من الصيغ الإعلانية، مدرَكة بتردداتها الدلالية، ويتم توارث هذه الصيغ، وما هو مدوَّن في أرشيف (زكرتية) الحارة)، ومن تولهوا، ويتولهون بمقاماتهم فكراً محسوباً وأدباً محسوباً وفناً محسوباً، يشهد على ذلك.
وعندما يستحيل الأدب، مشاهد حية، ميتة في المجمل، من خلال المدوَّن، استجابة لشعائر الحارة الموسومة.
وعندما يستحيل الفن بدوره، كلمات تليق بالرغبات المصنَّفة مقاماتياً، رغبات متناسخة.
وفي وسعي الآن، كما أشرت إلى ذلك أكثر من مرة، في كتابات كثيرة لي، أن أشدد، على أن الأكثر رخصاً في مجتمع الحارة الكردي، هو الكلمة، لأنها لا بد أن تستند إلى دعم أوليائي، كلمة تكون تراثية، وما هو فكري أو أدبي، غير التراثي قيمة ومغزىً، وكون مفهوم العمل، بنطاقه التاريخي والاقتصادي والاجتماعي، لم يتفعل وجدانياً، ليُعرف بتنوع أبعاده واقعاً.
ويعني أن الأكثر رخصاً، هو الفعل، حين يتقدم أحدهم (جندي الفعل المجهول)، فيكون شهيد الأمة، والوطن المرتقب كردستانياً، ولكنه واقعاً يتناهبه الجوع والفقر والتهميش.
والذين تحدثت عنهم، كأمثلة حية، أرادوا أن يكونوا، كما يريدون أن يكونوا، نوعاً ما، رغم التباعد الملموس بين واحدهم والآخر، إذ إن سيدا جكرخوين، هو ( طفل) الحارة المدلل، لأنه بقي مرغوباً فيه، ولكنه، واقعاً كان محسوباً على ما دون خط الفقر، كان مطلوباً في مفارقاته، أن يتكلم شاعراً، أو صاحب موقف، وفي الوقت نفسه، يكون المحسوب مواطن الحارة، وأن محمد أوزون( وكما سنرى في حينه)، كان الأبعد من كل هؤلاء، لعامل الظرف والتاريخ والتجربة الخاصة، من جهة علاقته بالآخرين، وموقفه من السياسة ووظيفتها، مثلما أن محمد شيخو كان الأهدأ، ولكن بحة صوته، والكلمات المغناة كردستانياً، شكلتا حضوراً مختلفاً له، في وقته، هو حضور الفن الذي يبحث عن أهليه تقديراً وتعميراً، وهذا لم يحصل.
أما نورالدين، فكان الأسرع في الرحيل إلى مجتمع يبعد عن (حارته) كثيراً، بعد معاناة كبيرة.
في التباعد، يكمن الوعي المكاني، كما هو الزماني، بشساعة العلاقة، في المختلف والمؤتلف، مثلما يمكن الحديث مطولاً، في مضمار (الثالوث الكردي المحرم)، أكثر مما أشيرَ إليه !
بالنسبة لشاعرنا سيدا جكرخوين، حيث يحضَّر للاحتفال به راهناً، كعادة الكثيرين من المقيمين في الظل الأوليائي، ما الذي يربطه بمجمل هؤلاء المحتفين به كل عام؟ ساسة في الغالب، محتضني لغة الأدب في الأعم الأغلب مجدداً، وهم في الظل المحرق، سوى أنهم يحيونه ليذيقوه ما لم يتذوقه مرارة أكبر في حياته، وهو الذي هرب بجلده، ورحل، وهو في الحرمة السويدية، ثم هتِف باسمه، وحمِل على الأكف، وصار له مزار، ليكون للمعنيين بأمره، ما استشعروه ضرورة لإبراز مكانتهم من خلاله، دون أن يحسن المقاطعة، فلا يُبحَث في روحه التي عاشت وجعاً مديداً، ولا في روحه المهدورة كثيراً، ولا في شعره الذي أزهَق فيه الكثير، الشعر الذي أريد له أن يبقى في عداد الملهِب للأكف كذلك، ولا في مذكراته التي اهدرِت مصداقيتها التاريخية كثيراً، وكيف حصل ما حصل. لقد صار جكرخوين فوق التاريخ، فيا لبؤسه الموجَّه، وموته، وألمه المستعاد كل عام، ليكون هنا ذلك البروليتاري القومي الكردي الأكثر قابلية لأن يمثل في روحه المتبقية، بعد الاغتراب، وحرقة المنفى، ورؤية العالم من وراء الحدود المفتوحة هناك ، هناك..
بالنسبة لمفكرنا نورالدين ظاظا، كان الأقربون، من ذوي المكانة الأوليائية، الوجاهية ، بدورهم، أَولى في أن يذيقوه مر العذاب، أن يظهروا له أنه جدير في أن يكون الطريد والشريد باسمه ومقامه، طريد الحزب العتيد، وأي دوي صوت لطرد معتبر من هذا النوع، لئلا يشعر المحيطون به، أن صوت المفكر، يطغى على صوت لا يحسن تعبيراً ، كما يقتضي التاريخ الحدثي، أن يرحل سريعاً، أو بعيداً عن مسقط رأسه الكردستاني، ليُهلَّل له بدوره لموته السويسري الطابع، وليتعمد كردياً، وعن بعد: شهيد الكردايتي، وهو الذي سيّر خائناً، وجيّر تاريخاً، وليتم التخلص من ( عش الزنابير)، بالطريقة الأنسب لأولي الأمر، من خلال فورة الدم الكردية البراغماتيكية، حيث الاحتفاء به، مؤخراً، لأنه يلزم هنا، ولئلا يزعم زاعم، أن الكرد ليس في مقدورهم إيجاد مفكر، ولو كان ذلك على حساب التاريخ، وأرشيف القمار التحزبي الكردي، أي أن يكون الفكري هنا، في مقام المخصي، ما لا يمكن تحديده، ألا من خارجه ..
وبالنسبة لفناننا الكبير محمد شيخو، كان هو الآخر، رهين اللحظة العاطفية، ضحية حبه الشديد لما كان يريد تمثيله، وهو يشد خطواته وراءه، مجرباً، رغم أنفه، عنف المسافات، قاطعاً (الماء الكبير) أكثر من مرة، أن يصل إلى الحد الأقصى من الشرق الكردستاني، منذ أكثر من ربع قرن، وأن تدفع به لوعته التاريخية، وكفنان ينزف روحه في غنائه، إلى حيث قامشلو، ليكون منفى متجدد، وليموت، ويكون لموته دوي كوني، إذ يهلل الجوقة الكبيرة من المنتظرين موتاً نوعياً كهذا، موت فنان، ليحمَل كغيره، على الأكلف، غير مصدَّق متى يدفَن، لتقرأ الكلمة الجاهرة، والمشاعر الخلبية الجاهزة، والروح المتخشبة الجاهزة، والمناسبة المحضَّر لها، كل سنة، جاهزة بدورها، ويكون موته، وتجديد موته، ليتجدد منفاه، حتى وهو في قبره، حيث لا يراد إلا ذلك الطرب الذي يمكن للمرأة الكردية المعتبرة، أن تبرز مفاتنها في هز بطنها ومؤخرتها، في الرقصة الشعبية الكردية المتوارثة، كما يمكن لولي الأمر المعتبر، أن يثبت منافسة، في هز مؤخرته شعبوياً، لتأكيد بنوته وأبوته معاً لما هو كردايتي، وما عدا ذلك، ما لا لزوم له قطعاً .
أما روائينا الكبير، محمد أوزون، والذي رحل حديثاً، فهو الآخر، كان بين موتين، أحلاهما موت، موت، ملاحَق باسمه من خلال الذين يعتبرونه كردياً، وكان هكذا، وموت يترصده، من خلال الذين يتلمسونه فيه، الكردي الخارج عما هو قطيعي، وليأتيه الموتى تحرراً من ربقة ما، ولتبقى الأرض، أرضاً مغلولة إلى روحه، وهي تنبض، على طريقتها، وكما رأها، في ثنايا كلمته، وفعله الكرديين، وقد كان المنفي اعتباراً، والمعرَّض لتهم شتى، في ذات كرديته، وعندما يموت، ينتشر الدوي الآخر، لموت كاتب موقَّر، يلزم، لاستكمال نصاب الجوقة الكردية: تحزبياً، وتكتلياً، واستعراضياً في الحالتين، وكما هو الممكن تتبعه، وتحري أبعاد حياته وموته، وكيف تم الاهتمام به ليكون موت أوزون، في الوقت المناسب، لأولي أمر مناسبين، من جهة تسويق الكردية، في الجهة الأكثر انتحاراً، لأن في هذه الجهة، ينعدم الفكر المتبصر، والأدب المتنور، والفن المتحرر، من الآبائية المتعددة المقامات !
في المجمل، قد يكون الرابط في غير محله، والعلاقة تنافرية، وأنا أقول، لا بأس في ذلك، فأنا راصد البوابة الكبرى، حاملٌ لمجتمع الحارة الزواريبي كثيراً، كما قلت، في نفسي وذهني، لأؤكد على مدى التداخل الكبير، وسهولة المقايسة:
عندما يستحيل الفكر جملة من الصيغ الإعلانية، مدرَكة بتردداتها الدلالية، ويتم توارث هذه الصيغ، وما هو مدوَّن في أرشيف (زكرتية) الحارة)، ومن تولهوا، ويتولهون بمقاماتهم فكراً محسوباً وأدباً محسوباً وفناً محسوباً، يشهد على ذلك.
وعندما يستحيل الأدب، مشاهد حية، ميتة في المجمل، من خلال المدوَّن، استجابة لشعائر الحارة الموسومة.
وعندما يستحيل الفن بدوره، كلمات تليق بالرغبات المصنَّفة مقاماتياً، رغبات متناسخة.
وفي وسعي الآن، كما أشرت إلى ذلك أكثر من مرة، في كتابات كثيرة لي، أن أشدد، على أن الأكثر رخصاً في مجتمع الحارة الكردي، هو الكلمة، لأنها لا بد أن تستند إلى دعم أوليائي، كلمة تكون تراثية، وما هو فكري أو أدبي، غير التراثي قيمة ومغزىً، وكون مفهوم العمل، بنطاقه التاريخي والاقتصادي والاجتماعي، لم يتفعل وجدانياً، ليُعرف بتنوع أبعاده واقعاً.
ويعني أن الأكثر رخصاً، هو الفعل، حين يتقدم أحدهم (جندي الفعل المجهول)، فيكون شهيد الأمة، والوطن المرتقب كردستانياً، ولكنه واقعاً يتناهبه الجوع والفقر والتهميش.
والذين تحدثت عنهم، كأمثلة حية، أرادوا أن يكونوا، كما يريدون أن يكونوا، نوعاً ما، رغم التباعد الملموس بين واحدهم والآخر، إذ إن سيدا جكرخوين، هو ( طفل) الحارة المدلل، لأنه بقي مرغوباً فيه، ولكنه، واقعاً كان محسوباً على ما دون خط الفقر، كان مطلوباً في مفارقاته، أن يتكلم شاعراً، أو صاحب موقف، وفي الوقت نفسه، يكون المحسوب مواطن الحارة، وأن محمد أوزون( وكما سنرى في حينه)، كان الأبعد من كل هؤلاء، لعامل الظرف والتاريخ والتجربة الخاصة، من جهة علاقته بالآخرين، وموقفه من السياسة ووظيفتها، مثلما أن محمد شيخو كان الأهدأ، ولكن بحة صوته، والكلمات المغناة كردستانياً، شكلتا حضوراً مختلفاً له، في وقته، هو حضور الفن الذي يبحث عن أهليه تقديراً وتعميراً، وهذا لم يحصل.
أما نورالدين، فكان الأسرع في الرحيل إلى مجتمع يبعد عن (حارته) كثيراً، بعد معاناة كبيرة.
في التباعد، يكمن الوعي المكاني، كما هو الزماني، بشساعة العلاقة، في المختلف والمؤتلف، مثلما يمكن الحديث مطولاً، في مضمار (الثالوث الكردي المحرم)، أكثر مما أشيرَ إليه !