وتنقلب الأدوارُ.. شهرزاد من رَاويةٍ إلى رِوايةٍ..

هيثم حسين
heysem1@gmail.com

لا أتصوّر حديثاً يدور في عامودا أو عنها، إلاّ ويكون لسينماها النصيب الأكبر فيه، تذكيراً بها أو استذكاراً لها، حتّى كأنّهما قد باتا يحيلان إلى بعضهما بعضاً، عامودا والسينما، السينما وعامودا، كأنّ عامودا في جزء هامّ ورئيسٍ من تاريخها هي سينماها، أو كأنّ السينما في جزء آخر هامّ ورئيس كذلك، من ذاكرتنا، هي عامودا الكارثة والمأساة.. كأنّ السينما في بداياتها كانت تتـنبّأ بمستقبلٍ سينمائيّ تراجيديّ لعامودا، التي ترتسم لها الصورة التي يجب أن تُرى عليها.. وذلك بهمّة مَن يشحذون الهمم لإبقائها في طور التشكّل والتكوين، دون أن تتجاوز هذا الطور، لأنّ في بلوغها الرشد الخطر، حتّى لا يُقرأ سفر التكوين أو ينجَز واقعيّاً..
إن كان ماضي سينما شهرزاد العاموديّة هو حاضر وآتي المدينة المنكوبة بسينماها، بمستقبلها، ببنيها، بفقدها قوّتها اللاحقة، بذرة ديمومتها بالقوّة؛ المعرفيّة، العلميّة، التاريخيّة، الحضاريّة، التي كانت تذخر بها وتحياها، والتي بقيت طامحة لاستعادتها، والوصول إليها..
شهرزاد ههنا ليست راوية لشهريار، إنّها الرواية كلّها، من ألفها إلى يائها، أمّا الرواة فكثر، يختلفون ويتّفقون، يقتربون ويبتعدون، لكنّ الهمّ الجامع لهم جميعاً يبقى التفجّع والألم والانتكاب، لا سارد واحد هنا، فالمأساة المحلولة خلقت وخلّفت ساردين متعدّدين لرواية مأساة متعاظمة مع الزمن، يعمق أثرها بمرور الأيّام، لأنّ الذاكرة تستعصي على النسيان، ولأنّها يجب أن تحتفظ بتراث من نار لتستطيع تجنّب النار فيما يأتي من أيّام.. والزمن لا يرحم فاقدي الذاكرة أو مُفَرْمِتي الذواكر..
شهرزاد السينما، ليست راوية لشهريار المنتج والمستفيد، إنّها مأساة العاموديّين جميعاً، مأساة الإنسان الذي يودّ أن يحافظ على إنسانيّته من التميّع..
نعم إنّ شهرزاد هنا الرواية، المبتدأ والخبر، لأنّ شهريار قد تخلّى عنها عندما تركها مستباحة لمن يودّون التسلّي بها.. ليودوا بها فيما بعد.. لأنّ القادم يشي به الماضي بفعله المستمرّ، ويفضحه إذ يستحضره معرَّىً أمام شفافيّة الزمن..
شهرزاد الراوية، لم تصبر ألف ليلة وليلة كي تروي مأساتها، وتُروى مأساةً.. كي تصبّر منتظرها، لتغنّي له الحكايا، لتغنيه وتلهيه عن كلّ ما حوله، لأنّ ما حلّ كان أقوى منها.. فكانت الضحيّة؛ ضحيَّةَ ليلة خريفيّة أسقطت كلّ الأوراق عن شجر العمر، وعن عمر الأمل، لتبقي المدينة مسكونة بالألم، مُنتهَبة في العراء، على مرأى ومسمع من عُري التاريخ؛ هذا الذي بقي متستّراً على اللاعبين بالمصائر حتّى تاريخه..
شهرزاد الحكاية، لم تصبر على النار، صُيّرت وقوداً لها، اللهب الدسّاس لم يرحم أحداً، ولم يبقِ على أحد، كانت النيران أقوى من الجميع، فابتلعت المئات، وأبقت على الآلاف من بعدهم، وممّن معهم، مرتحلين معها في إفناء العمر المتبقّي، رهنه لهم، ووقفه عليهم..
لم يصح ديك الصباح مؤذناً بنهاية الليل بينما تنتهي شهرزاد من الحكاية، لأنّ لظى النيران سبقته، فكان البوم ينعب، وظلّ على حاله، بينما شهرزاد المأساة؛ عامودا الحكاية والكارثة، تستعرض ضحاياها وتبحث عن مخرج فيلم “شبح نصف الليل”، لتمحو صور الأشباح وتقطعها من شريط الفيلم، وتحاسبه على جريمته في مقتبل العمر، وبداية الليل..
حتّى أبطال الحكايات المؤسطرون ينقلبون على أنفسهم وأدوارهم وتاريخهم، عندما يتعلّق الأمر بنا، يتحوّلون إلى النقيض ممّا هو معروف عنهم.. هل نعرف السبب..؟!! هل أحدٌ يعرفه..؟!!!
مَن يعترف بخطئه أو يلوم نفسه، يأتي من بعده مَن يسحب كلامه ويعتذر عن خطأ ارتُكب، وذلك عندما اعتُرف بالخطأ، ثمّ لينسحب من الحكاية، ليترك الحكاية دون راوٍ يحبكها، يبقيها مُبلبلةً فريسة للتجاذبات، مرهونة للانقسامات، مذرورة هباءً..
إن كان من المعروف، أنّ السينما عند الآخرين هي للمتعة والفائدة، فإنّها تنقلب على دورها وتسهو عن رسالتها عندنا بفعل حاقدٍ مارقٍ مقامرٍ، لتنتج اللوعة والألم، وتشذّ عن القاعدة، ويصبح الشذوذ قاعدة ههنا، لأنّ الاستثناء يحكم قواعد لعبة اللامنطق..
لطالما يبقى المتسبّبون مجهولين..
لطالما يبقى ملفّ الجريمة مطويّاً على الفراغ وتجريم الضحايا..
لطالما تبقى الكوارث اللاحقة كلّها مقيَّدة بحبرٍ سرّيٍّ ضدّ الهلام..
إذن.. سنبقى في عامودا مهووسين، بالبحث، في محرّكات بحثٍٍ خاصّة بنا، عمّن عكّر ويعكّر صفوَ صفونا، ويسيء إلينا، لنصيح به معاً، لا منقسمين كعادتنا، لا متفرّقين كما يراد لنا، لا مُتعادين متخاونين كما يتمّ، لنصرخ ملء أفواهنا معاً: قـــــفْ.. قفْ مَن أنت..؟!
عندها فقط.. سنتابع السينما، ومهرجاناتها التي ستحتفظ بـألقها، ولن تكون “مهرجانات دمٍ” أو حرقٍ أو ألمٍ، ستكون للمتعة لا للوعة، ستحكي لنا شهرزادُ الراويةُ الحكايةَ من الصباح حتّى الصباح.. ولن تأبه لشهريار..
عندها فقط.. لن ننام على ضيمٍ.. لن تنبح القطّة، لن تموء العنزة.. سيعود كلّ شيء إلى مكانه، والأدوار إلى أصحابها، دون أن تنقلب على نفسها.. سيستطيع قائلنا أن يقول: افرح وأنت تتابع السينما.. لأنّك “مش حتقدر تغمّض عينيك”..    
ــــــــــــــ
– في ذكرى مأساة حريق سينما شهرزاد بعامودا 13-11- 1960م، التي راح ضحيّتها المئات..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…