بيوار إبراهيم
آذارنا الذي يطحننا و نطحنه, آذرنا الذي يقبلنا و نقبله, آذرنا الذي يبكينا و يفرحنا و لكننا لا نستطيع أن نبكيه أو نضحكه نبقى صامتين في حضنه نبكي عندما يبكينا و نضحك عندما يضحكنا. هذا الآذار نفسه يخبرنا كم نحن عراة الذاكرة التي تنتظر حضور كهنة الأحلام لينشدوا تراتيلهم بصلبانهم المذهبة و تباشيرهم اللاشعورية.
آذارنا الذي يطحننا و نطحنه, آذرنا الذي يقبلنا و نقبله, آذرنا الذي يبكينا و يفرحنا و لكننا لا نستطيع أن نبكيه أو نضحكه نبقى صامتين في حضنه نبكي عندما يبكينا و نضحك عندما يضحكنا. هذا الآذار نفسه يخبرنا كم نحن عراة الذاكرة التي تنتظر حضور كهنة الأحلام لينشدوا تراتيلهم بصلبانهم المذهبة و تباشيرهم اللاشعورية.
عندما تهتز أركان البدن و الخطى تسرق الدروب من الحياة تتحول الأشجار إلى أيام تهرول من الأمس نحو اليوم حتى تذوق الخبز المقدس المغطس بنبيذٍ من عناقيد الأمل… أيام تحاول فطم نفسها بنفسها من أثداء الماضي كي تحبو نحو المستقبل. احتقان الألم و الأمل في القلوب و الأوردة التي تحاول تفتيت جوع الجوع و عطش العطش تحذرنا من الأمس و اليوم و الغد تخبرنا أن النسيان تحول إلى ستائر نختفي وراءها دون أن نشعر, نختفي من جوع الحياة و من جورها و ظلمها هذا النسيان الذي اعتقدنه مجرد كلمة في قاموس الكلام تحول إلى قاموس في نهج الحياة.
عندما يتعلق الضباب بكلماتنا تتحجب كلماتنا عنا فلا نعد نرى ما نقول و نقرأ, لكن الضباب إذا ما حضر و تعلق بأكبادنا فإننا سرعان ما نلهث وراء الغيوم كي تمطر أي شيء حتى لو كان بركاناً لينقشع ذلك الضباب عن الأكباد التي تكاد تتنفس تحت ثقله. خليل ساسوني عرفته و هو يعلم الحياة و يتعلم منها علم المرض كيف يخرج من جسده و هو مازال موجوداً فيه. خليل ساسوني, الشاعر الذي أبدع من المرض قصيدة في ثلاثة كلمات ” سأحول السرطانات إلى ثعالب” و اليوم حول القصيدة إلى ديوانٌ صامت بلا كلمات و بلا أنين و بلا مرثيات, ديوان حمل بين أوراقه ألاف العبرات التي لم تذرف على وجنتيه بل تدحرجت بين شرايين قلبه فقط دمعتان خانتاه و سقطت فوق الشاهد الذي يحمل اسم المناضل محمد نذير مصطفى.
هكذا يبدأ و هكذا يمضي الدرب, آلاف اللعنات و الكبوات تنزل بوابلٍ من غضبها على كل صوت و كل يد و على كل خطوة تتقدم بالمسير نحو الشمس و نحو النور و حتى نحو الثلج و النار…
هكذا يبدأ و هكذا يمضي الدرب, آلاف اللعنات و الكبوات تنزل بوابلٍ من غضبها على كل صوت و كل يد و على كل خطوة تتقدم بالمسير نحو الشمس و نحو النور و حتى نحو الثلج و النار…
عندما نرفض من أعماقنا أن نتساقط مثل الورود تحت الأقدام و نتحطم مثل ألواح الزجاج التي تحولت في مخيلتنا إلى لجج, عندما نرتقي نحو السمو و نحو إنسانية الإنسانية حينها نعجن العذاب و الآلام و نتركها محطمة وراء جدران القلوب.
اليوم أعاد جمع أحلام العودة المبعثرة بينه و بين الفارس الذي لم يرحل عنه و عنا كان معه اليوم و قبله قبلة كبيرة بكبر القبلة و أحنى له جبينه و كأنه واقف أمامه بقامته التي لم تهتز, قامة المناضل محمد نذير رمز الصبر و التحمل و العزة.
في أول لقاء لهما بعد رحلة المرض و بعد الرحيل الأخير, رحيل الدهشة التي أدهشتنا بصمته النبيل, لقاء آذاري يبتعد بنفسه عن الهسيس و الصراخ و عن الحياة و الموت… لقاء تحدث بنفسه عن نفسه للزمن الذي ترك في قلوب القهر و العذاب قهراً و عذاباً أكثر و أكثر… لا شيء أوضح مما يحاول المرء إخفاءه و لا شيء أقسى من رسم الابتسامة فوق شفاه الحزن لكنه رسم تلك الابتسامة المبللة بدمعتين فوق شفاه حزنه و سقى بحضوره أوراقاً تساقطت من كبد النسيان إلى قلب الحاضر.
هل يحتاج المرء أن يناضل و يصرخ بصوته بالصمت…؟ الصمت و لا شيء غيره يرفض الاعتراف بالضعف و الهزيمة و بالذل و الخنوع. كان لنا أن نخون الزمن و كان للزمن له أن يخوننا لكن, لا نحن و لا الزمن توقفنا عن طحن الحروب بين النور و الظلام و بين الحب و الحقد… و النتائج دائماً في مصلحة الزمن الذي لا يرضى لنا أن نكون في حضنه أحراراً كما ولدتنا أمهاتنا. الزمن الذي علمنا إن العطف المبالغ فيه يؤدي إلى الضعف و شعور المسئولية المبالغ فيه يؤدي إلى القسوة. لكن الحياة تجبرنا أحياناً أن نذوق مرارتين, مرارة موت الموت و مرارة موت الحياة, علمنا أن نذوق نبيذاً يكون في البدء مهذباً و أسطورياً خارقاً يحول الليل إلى نهار و النهار إلى قوس قزح و لكن ما أن ندمنه حتى يجعل من الحياة جحيماً. لا أعتقد إننا أدمنا على نبيذ القهر الذي لا يتزحزح عن بتر وريد واحد في حياة تتصدى للنمور من الأبواب الأمامية و لا تدرك أن الذئاب تتسلل إليها من الأبواب الخلفية و مع كل هذا نهدهد الزمن و معها نهدهد نفوسنا من أعماقها و نقول: أن الخسارة أحياناً ” تكون” انتصار و الموت حياة و المرض شفاء و الهرب مواجهة.
استيعاب التآلف بين الدمعة و الابتسامة و بين الزمن و الزمن روح يسكن في خربشات الأنين و الوجع و قلب ينبض داخل أرض حملت قلوباً تتعامل مع الزهور دون أن تقص جذورها, قلوباً مضت في دربها السرمدي من الأمس العريق و حتى الغد المشرق قلوباً علمت الزمن و الحياة:
” من يتغذى العجرفة يتعش العار”.
في أول لقاء لهما بعد رحلة المرض و بعد الرحيل الأخير, رحيل الدهشة التي أدهشتنا بصمته النبيل, لقاء آذاري يبتعد بنفسه عن الهسيس و الصراخ و عن الحياة و الموت… لقاء تحدث بنفسه عن نفسه للزمن الذي ترك في قلوب القهر و العذاب قهراً و عذاباً أكثر و أكثر… لا شيء أوضح مما يحاول المرء إخفاءه و لا شيء أقسى من رسم الابتسامة فوق شفاه الحزن لكنه رسم تلك الابتسامة المبللة بدمعتين فوق شفاه حزنه و سقى بحضوره أوراقاً تساقطت من كبد النسيان إلى قلب الحاضر.
هل يحتاج المرء أن يناضل و يصرخ بصوته بالصمت…؟ الصمت و لا شيء غيره يرفض الاعتراف بالضعف و الهزيمة و بالذل و الخنوع. كان لنا أن نخون الزمن و كان للزمن له أن يخوننا لكن, لا نحن و لا الزمن توقفنا عن طحن الحروب بين النور و الظلام و بين الحب و الحقد… و النتائج دائماً في مصلحة الزمن الذي لا يرضى لنا أن نكون في حضنه أحراراً كما ولدتنا أمهاتنا. الزمن الذي علمنا إن العطف المبالغ فيه يؤدي إلى الضعف و شعور المسئولية المبالغ فيه يؤدي إلى القسوة. لكن الحياة تجبرنا أحياناً أن نذوق مرارتين, مرارة موت الموت و مرارة موت الحياة, علمنا أن نذوق نبيذاً يكون في البدء مهذباً و أسطورياً خارقاً يحول الليل إلى نهار و النهار إلى قوس قزح و لكن ما أن ندمنه حتى يجعل من الحياة جحيماً. لا أعتقد إننا أدمنا على نبيذ القهر الذي لا يتزحزح عن بتر وريد واحد في حياة تتصدى للنمور من الأبواب الأمامية و لا تدرك أن الذئاب تتسلل إليها من الأبواب الخلفية و مع كل هذا نهدهد الزمن و معها نهدهد نفوسنا من أعماقها و نقول: أن الخسارة أحياناً ” تكون” انتصار و الموت حياة و المرض شفاء و الهرب مواجهة.
استيعاب التآلف بين الدمعة و الابتسامة و بين الزمن و الزمن روح يسكن في خربشات الأنين و الوجع و قلب ينبض داخل أرض حملت قلوباً تتعامل مع الزهور دون أن تقص جذورها, قلوباً مضت في دربها السرمدي من الأمس العريق و حتى الغد المشرق قلوباً علمت الزمن و الحياة:
” من يتغذى العجرفة يتعش العار”.
18/3/2009