ديلاور دلدار يغامر بالغطس في البرك اللونية العنيفة و الصاخبة

غريب ملا زلال 

فقط أن نمتلك قدرة الإقتفاء لحيوية الشكل عند ديلاور دلدار ( 1979- عفرين ) من حركية الخطوط و روحية الألوان و ما بينهما من ترابطات شكلية، مع إمتلاكنا لزمام التأمل بفسحاته الكثيرة حتى نكون قد خطونا في الطريق الصائب نحو تجربته بعوالمها المختلفة و بتشكيلاتها المتنوعة، و بتمثيلاتها الملتقطة من عالم الإنسان و ما يصاغ من حياته، و بذلك نكون قد وضعنا الأصابع الداخلية للروح و للنفس على الجرح الأهم في ذلك الجسد أقصد جسد تجربته، فهو يؤكد أن الإنسان السوري يتألم، و ذاق منه و ما يزال بما يكفي الدهر كله، فعلاقته مع الألم ولد مع قدره الذي تحكم به ساسة يسخرون كل شيء لمصلحتها، ساسة لا يفقهون من لعبة الحياة و عظمتها غير تلويثها برائحتهم التي عج الزمان و المكان بها حتى لاذا بالفرار في الفلوات كلها، فدلدار و في كل عمل من أعماله يشعرنا بالحريق الكبير الذي أكل البلاد و العباد، و حصد الحياة و الحب و الإنسان، الحريق الذي يلغي الله الجميل و الذي يحب الجمال،
 فما يحدث هنا، في هذه الرقعة التي ضاقت بكل ما هو روح، ليست قيامته حتى نضعف و نقول لا حول و لا قوة، بل قيامة من يكرهون الحياة و الله و الإنسان لرسم لوحة تملىء جيوبهم، و تفرغ أجسادهم من أي روح و دم، و تشبع الحيوان فيهم لينهقوا و ينبحوا و يخوروا حتى النفس الأخير، دلدار يعيش هذه القيامة الإصطناعية، و يعيش حالاتها و كأنه يريد أن يكون شاهداً عليها، فتبدأ رؤيته مع المشهد إلى حد التلاحم، فيلقي روحه بمزاجة ألوانه حتى تأتي أعماله مسكونة بالألم إلى حد اللاوجع، فالسر في عمله هو حقيقته الساخنة، الحقيقة التي بالكاد يقبض عليها حتى لا تغادر تماماً، و لهذا فأعماله ليست محطات عابرة مر فيها دلدار، و لا هي روائح المأساة العالقة به حين مر بها ذات عمر، بحركة أو التي تلاحقه أينما حلّ به ترحاله، فكل شيء عنده ممكن و يحمل قيمه في ذاته بقدر حمله لصراخه الذي هو الجزء الآخر من التاريخ الذي يلفحه كثيراً، فالمشهد مشابه في الداخل و الخارج، لا ضوء شمس تدفئه، و لا هواء يهندس روحه، كل الأمكنة مزدحمة بالعذاب، و كل الشوارع مزينة بالحرائق الذي تبحث عن كل مفصل ليخترق حتى عظامه .
يعزز ديلاور دلدار مناخات صائبة و إن كانت مستفزة كثيراً، و مؤلمة جداً، يعززها لحقول عبث القدر بها حتى باتت بينالات لبيارق يعجز الرب في تعدادها و ماهية ألوانها، فكل بيارق الأرض إستفاقت و جاءت لترفرف فيها، و عليها، ومع ألسنة اللهب و هي تأتي عليها، فدلدار يعيش حالة بصرية تكبر مشاهدها أمام فرشاته لينطقها حتى باتت تروي حكايتها لكل قارىء يقف أمام مساحاتها دون أن يبذل جهداً في فك طلاسمها، حينها يشعر دلدار بالطمأنينة فأعماله باتت تتقن سرد حكاياها بذاتها، من ألفها ليائها، فما أرضعها دلدار من أحاسيس و مشاعر تكفيها السرد كله فمؤثراته فيها متميزة و سرعان ما تظهر على متلقيه و هو يقوم بفعل الوصول فيها، على أساس من فهم حقائقه و أشيائها، فأعماله أقرب إلى بانوراما الوجع، يثير الدهشة و الحيرة و التساؤل، و أبعد من أن تكون إستجابات آنية لمنحى زمني ما، و إذا عرفنا أن دلدار هو إبن عفرين إحدى جراحات البلاد، بل إحدى مهور اللعبة التي لما تنتهي بعد، فلا نستغرب هذا الإفراط في إبراز الحالة المزاجية لديه و التي تعتمد على المكان المحيط به، فيبدو أنه لا يبحث عن إلتقاط حالات ثابتة، بل يستغرق فيها بخصوصية هي أقرب إلى رؤية عامة يتم تقديمها 
 كمستويات لأركان بعيدة تحمل كل خصائص التعبير مصحوبة بالأسى و الزفرات و التنهيدات العميقة .
إن المتأمل هنا في أعمال دلدار سيتجلى ذلك لديه على منحيين، الأول كشف عن الموضوعات في طبيعتها الأساسية و الجوهرية، و الثاني رؤية خصائصها المميزة كاللون و الشكل، الأول يذهب به إلى الطابع الموضوعي لها بمواده الحسية و التي هي حاضرة و مشغولة بالمحافظة على إستقلاليتها الحرة، و مظهرها الخارجي قابلاً للرؤية بوصفه ترددات متناغمة تهتم بما يثير في الإنسان من عمليات تقربه منها دون أي إرتباك، و الثاني يذهب به إلى ما يتطلب منه من الإهتمام بجماليات جديدة و ضرورة تكوينها و تمثيلها من خلال اللون و التعبير، و ذلك تبعاً لإطاراتها المعرفية و إستجاباتها، و تبعاً لتوجهاتها التالية الخاصة المرتبطة إلى حد كبير بإستجابات التلقي و عملياتها، إن كانت مشاعر عنيفة و إنفعالات مخيفة، أو عكسها الشعور بالمتعة و الإرتياح، و في الحالتين لا يمكن إستبعاد العناصر الخيالية في إستحضار كل ذلك، و يبدو أن دلدار يقوم بمخاطرة الغطس في البرك اللونية العنيفة و الصاخبة ساعياً نحو خبرات إدراكية و حسية خاصة و إستكشاف بيئات جديدة تضعه في دائرة الضوء، فبإستعادته لأفق التوقعات في مرحلة ما منها يمكنه من رفع الضخ لمستوى التأويل في مجمل جوانب منتجه، و هذا يؤدي بالضرورة إلى رفع منسوب القراءة لدى متلقيه بوصفه واضعاً يده على مجمل عملياتها التاريخية منها و الإجتماعية، فإشاراته الكثيرة و المندمجة بالذاتي تجعله يسيطر على معيار الجمال الذي يرتفع مع أهمية تكوين علاقات وثيقة و ممتعة بينه و بين عمله من جهة، و بينه و بين المتلقي من جهة ثانية و بين عمله و متلقيه من جهة ثالثة، و حاجته الخاصة لمؤثرات بصرية تدفعه نحو التخيّيل و التوحد مع آفاقه تلك بأسلوب معرفي به يلتقط المعلومات و يستثير الشعور بقدرات مازالت قابلة للتشكيل و التأمل العميق بها .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…