أنا ابن أمي أيضاً

إبراهيم محمود

هوذا أنا ابن أمّي الذي كنتُه، ابن أمي الذي كان، وابن أمي الذي يكون في الكثير مما يغذّيه ويبقيه كائن حياة في داخله، كائن حياة في خارجه، وابن أمي الذي سأكونه مأهولاً بوهج أمومتها المبثوث في كينونتي، ابن أمي الذي لم يذكرها لحظة، لأنه لم ينسها لحظة طبعاً. أتراه قادراً نسيانها، وهي خميرة ربانية في عجينة ما يتحسسه، ما يتنفسه، وما يتفكره ويتدبره؟!
هكذا كانت أمي، ولا بد أن أم أي كائن حي هي هكذا دون أي تفريق في الجوهر طبعاً، فكيف بالكائن الذي شكل مع الطبيعة توأم حياة؟ أي نقيصة يا ترى، حين أنسّب، أو غيري ينسَّب إليها، إلا إذا رأى هذا الذي يشعر بالدونية أن ليس من بطن أم حملته، إنما فضيلة أب عدا عن كونه من صُلْبه، وما في ذلك من مخالفة للواقع ؟!
هوذا أنا ابن أمي التي أعترف، صراحة، بفضيلة رحمها الذي احتضنني جنيناً، التي أخذتني بضيافة روحها وقد منحتْني حضوراً نوعياً، وأسبغت علي بمدد من طاقتها الأمومية شهوراً تترى، لتجعل من ضعفها فاعل قوة لي، كي أكون كائن الغد المؤهل للاستمرار في الحياة.
هوذا أنا ابن أمي لا زلفى ولا ادعاء، وأنا أبصرها أمامي، جانبيّ، وفي الأفق البعيد، كما لو أنها محرَّرة من الزمن، لتشعرني تباعاً أن القوة المؤسسة للحياة الفعلية تحمل بصمتها، تلك هي الأم لا تفرض سلطانها من موقع السيادة والاستئثار بالقوة على أحد، خلاف الأب” رب البيت المأثور تاريخياً هنا وهناك، بسمائه الباردة مقارنةً ” إنما تبث سلطة معرفية، قوة معرفية تتعدى الحدود، كما لو أنها راحة اليد التي تنبسط، وتبسط حنوَّها وتفانيها، بعيداً عن أي مقابل بالتأكيد ، ومن شابه أمه في الانفتاح على الحياة، على الآخرين، وعلى روحه ما أخطأ في معايشة فنون الحياة .
هوذاأنا ابن أمي التي رحلت عن الدنيا قبل اثني عشر عاماً، بكامل جسمها الواهن، خلاف روحها المقدامة، كما لو أنها تزداد حضورَ قوة، حضور انبثاق بما هو منير ومعزّز للحياة، كما لو أنها تبقيني” معاً ” ذلك الصغير الذي يرضع الحياة بيدها المبثوثة نوراً، بثديها الملقَّم بطيب الحياة وطهارتها، وذلك المأهول بطفولة في عقود مترابطة وليس مجرد عقد ونيّف، لأعيش رحابة العالم، شاعرية الرؤية فيه، وسعادة المتخيل اللامتناهي لحظة الكتابة، وما قبلها، ومأثرة فرح اللقاء بالعالم، بالآخر دون اعتبار للغته، للونه، لجنسه طبعاً، وذلك الصبي الذي يجمع بين متعة التوجه إلى الشباب، ودهشة الطفولة، وتمازجهما اللاحدودي، وذلك الراشد وقد أعد عدته للخروج إلى العالم وسلوك طرق مختلفة، ذلك الماضي بعقود عمْرية، كما لو أنه يعيش مناغاة الصغر، وبهجة الطفولة، وروعة الشبوبية، وحكمة الكِبر وجذوة حكمته .
هوذا أنا ابن أمي التي أعنيها وأعيها، وحيث أعيش تفانيها، وهي تتحرك بظلها على طاولة الكتابة، وحين أنظر إلى وجهي في المرآة، وحين أستعد للخروج، وأنا أقبّل يدها راحة وكفاً، لأستضيء بها، وهي تمسّد بيدها بالغة النعومة على رأسي، وهي تسمعني صوتها الينبوعي: رافقتك السلامة يا ولدي، وأشعرها معي، كما لو أن رحيلها صيّرها كائنة من نوع آخر، أراها حيث أريدها نزيلة روحي، لأحسن توجيه خطاي بثقة أكثر، وأقل تعرضاً للخطأ.
هوذا أنا ابن أمي المعطاءة دون شروط ، ليس تباهياً أو تفاخراً، أو اعترافاً بمناسبة ما، على وجه التحديد، إنما تنويراً لحقيقة أسجلها لنفسي، وبنفسي طواعية، وليس عرْضاً لما أريد قوله، أو للنظر فيما أقول، ومن خلال هذه المسيرة العمرية التي تكاثرت عناوينها، في والتنوع الكتابي، ودون البت في محتواه، وهو أن كثيرين يخجلون من أن يُذكروا بأمهاتهم ” ابن فلانة، مثلاً ” كما هو المألوف هنا وهناك، وما في ذلك من شعور بالنقص، والارتباك، والتوتر…إلخ، كما لو أن ربْط اسم أي منا باسم أمه، تعرية له، وإهانة ما بعدها إهانة له( الشعور المريع والضمني، بأن ليس له أب في مجتمع موجَّه عرفاً، تقليداً، ثقافة، واعتقاداً أبوياً، وهذا ما يسيء إلى أمه ذاتها..)، وأن ربط الاسم بالمذكر، اعتراف بالمعمول به، وضمان سمعة طبيعية مجتمعياً للأم. أي طالما أن أحدنا يقترن تنسيباً إلى أبيه، فأمه بعيدة عن أي تهمة من الناحية هذه. يا للجرم التاريخي !
هوذا أنا ابن أمي، الأم التي تكون في الواجهة، في الاعتبار، نداء الروح، صرختها، لحظة الشعور بالألم، لأن ملمس يدها لا يقاس بدواء أي نطاسي، لأن رؤية وجهها لا سماء توازيها وساعة أو رحابة، وهي تضع رأس ابنها، أو ابنتها في حضنها، كما لو أنها تعيد دورة الأمومة بداية، لتبث عافية في جسمه: جسمها، وأن أياً منا، لا يناله ضيم، أو يكون في معرض سخرية، إن وضع رأسه في حضن أمه ولو أنه طعن في السن، اعترافاً من أن هذه الأم ، الأم على وجه العموم، تظل الملاذ الروحي خارج أي حساب زمني. يا لروعة التقدير غير المسجَّل !
هوذا أنا ابن أمي حيث كانت، وحيث تكون، وستكون، وأدرك أن عظمة الحياة تسمّى بها، أن أيّاً في قرارة نفسه يتنفس ما هو أمومي فيه، أن الإبداع بصفته التكاثرية، يحمل بصمة أمومية، كما هي الطبيعة الموصوفة بالأم الكبرى.
وأن يقرّ أحدنا بحقيقة كهذه في الارتباط الاسمي بأمه، كما الحال بأبيه، على الأقل، يكون الإنصاف في أوج معناه، وأن تفكيراً بسيطاً في علاقة كهذه، يوسّع معنى الحياة ويخصبه كثيراً، حيث الأم أكبر من أن يجري التذكير باسمها لحظة التلقين” يا ابن- ابنة فلانة ” كما لو أنها ممثّلة موت لا حياة. وكل عظيم يحمل روح أم داخله، وكل متنكر لذاته هذه، يحمل بذرة مستبد داخله، لنفسه وعليها، قبل توجهه إلى غيره، وفي الواجهة أمّه بالذات…!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

 

رجع “أبو شفان” إلى البيت في ساعةٍ متأخرة، يجرّ خطواته كما لو كانت أثقل من جسده المنهك. وجهه مكفهر، ملامحه كانت كمن ذاق مرارة أعوام دفعةً واحدة. ما إن فتح باب الدار، حتى لمح ابنه البكر “مصطفى” جالسًا في العتمة، ينتظره كأنه ينتظر مصيرًا لم يأتِ بعد.

– “أهلاً أبي… تأخرتَ الليلة”.

– “كنتُ في مشوار…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

مَدرسةُ فرانكفورت ( 1923 _ 1970 ) هِيَ مَدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفةِ النَّقْدية ، مُرتبطة بمعهدِ الأبحاثِ الاجتماعية في جامعة غوتة في مَدينة فرانكفورت الألمانية ، ضَمَّتْ المُفكِّرين والأكاديميين والمُنشقين السِّياسيين غَير المُتَّفقين معَ الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية المُعَاصِرَة ( الرأسماليَّة ، الفاشيَّة ، الشُّيوعيَّة ) في ثلاثينيات القرن…

عبدالاله اليوسف

 

لكن الهواءَ يحفظُ صوتكَ في الشقوق

بين تنهيدةٍ

ونَفَسٍ لم يُكمِلِ الطريق

 

قلبُكَ

ساعةٌ لا تُعيرُ الوقتَ اهتمامًا

تمرُّ عليها الأزمنةُ

ولا تشيخ

 

تخجلُ

من مرايا الوجوه

فتعيدُ تشكيلنا

كما تشاء

كأنك تصنعُنا من بُعدٍ

بحركةِ عينيك فقط

 

نلتفت

حولنا

أضيافك

نرتدي ظلالًا

ولا ندري

غريب ملا زلال

ليست سوى الحرب
تأكل أضواءنا
و رجالها
في دهاليز المملكة
يكيلون دماءنا
مُذ عرفت
أن الرب
في عليائه يستريح
كمحارب قديم
أتى تواً
من الجبل
و أحلامنا ..
آمالنا
تذهب في الريح
بحثاً عن أشلائنا
هل كانت الأمور
في السموات العشرة
على ما يرام
حين خلت المدينة
من أبنائها
إلا من بقي نائماً
تحت الركام
و زخات المطر
بعد القصف
هل كانت
دموع الرب في عليائه
على عباده
أم كانت
رذاذات صرخة
لطفل يبحث عن أمه
كل المعابد
لا تصلح لإطفاء الحريق
فالرب متعب
والكهان متعبون …