غسان كنفاني: الأديب الذي جعل من الكلمة رصاصة

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام 1936، في أسرة فلسطينية متوسطة الحال. ترعرع في يافا التي أحبها كثيرًا، إلى أن جاءت نكبة عام 1948، فاقتُلعت أسرته من أرضها وهُجّرت إلى لبنان ثم سوريا. في دمشق، تابع دراسته في الأدب العربي، وبدأ يتلمّس وعيه السياسي مبكرًا. كانت النكبة جرحًا شخصيًا عميقًا، لكنه حوّله إلى مشروع حياة وأدب.

الصحافة والنضال: بين الكلمة والموقف

لم يكتفِ كنفاني بالأدب، بل انخرط مبكرًا في النضال السياسي. انضم إلى حركة القوميين العرب، ثم أصبح ناطقًا رسميًا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وفي بيروت، عمل صحفيًا بارزًا، وتولى رئاسة تحرير مجلة “الهدف”، التي تحولت تحت إشرافه إلى منبر فكري مقاوم، يعكس صوت الفلسطينيين في الداخل والخارج.

أدب المقاومة: حيث الرواية تتحول إلى فعل

كان كنفاني رائدًا في ما يُعرف بـ”أدب ما بعد النكبة”، أو “أدب المقاومة”. كتب الرواية والقصة والمقالة الأدبية، وجعل من الإنسان الفلسطيني بطلًا مركزيًا في أعماله، لا بوصفه ضحية، بل بوصفه فاعلًا، مقاتلًا، حالمًا.

من أبرز أعماله:

“رجال في الشمس” (1963):

روايته الأشهر، وتحفة أدبية تتناول مأساة الفلسطيني في المنافي، عبر ثلاثة لاجئين يموتون مختنقين في صهريج شاحنة. تساؤله في نهاية الرواية لا يزال يُدوّي: “لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟”

“عائد إلى حيفا” (1970):

رواية قصيرة تبحث في معنى الانتماء حين يعود أب وأم فلسطينيان إلى بيتهما الذي فقداه بعد النكبة، ليجدا ابنهما قد أصبح جنديًا إسرائيليًا. تطرح الرواية أسئلة وجودية عن الوطن، الأمومة، والاختيار.

“أم سعد” (1969):

شخصية المرأة الفلسطينية الصلبة، التي تتجلى في أم سعد، أم الثائر، أم المخيم، التي لا تبكي بل تبني، لا تنتظر بل تبادر.

“ما تبقى لكم”، “العاشق”، “عن الرجال والبنادق”، “برقوق نيسان”، وغيرها من القصص والمقالات، كلها حملت فلسطين على أكتاف الحبر.

أسلوبه: عندما تتكلم الرمزية لغة البندقية

امتاز كنفاني بأسلوبٍ بسيط من حيث اللغة، عميق من حيث الفكرة، مباشر من حيث الموقف، رمزيّ من حيث الشكل. لم تكن رواياته للتسلية، بل للتثوير، ولم تكن شخصياته تمثيلات أدبية، بل شظايا من الذاكرة الجمعية.

اغتياله: حين تصبح الكلمة خطرًا

في 8 يوليو 1972، اغتاله جهاز الموساد الإسرائيلي في بيروت، بتفجير سيارته، فاستُشهد ومعه ابنة شقيقته لميس. كان عمره آنذاك 36 عامًا فقط، لكنه خلّف أثرًا لا يزول. لم يكن الهدف اغتيال جسد، بل إسكات فكر، لكنهم فشلوا. بقي كنفاني حيًّا في نصوصه، في ضمير شعبه، وفي ذاكرة الأدب العربي الحديث.

إرثه: ضمير القضية ووجهها الثقافي

غسان كنفاني هو ضمير القضية الفلسطينية الثقافي. لم يكن يحارب بالبندقية، بل بالحرف، ولم يحمل علمًا أبيض، بل راية الكرامة. اليوم، تُدرّس أعماله في الجامعات، وتُترجم إلى لغات العالم، وتُحوّل إلى أفلام ومسرحيات. هو الكاتب الذي منح الفلسطيني صوتًا وإنسانية، وواجه العالم بالحقيقة: “نحن شعب لا يموت”.

*شاعر وكاتب فلسطيني.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن حديثاً المجموعة القصصية “تبغ الفجر” الشاعر السوري الكردي علي جازو، في كتاب يضم اثنتين وعشرين قصة قصيرة تتنوع بين النصوص اليومية المكثفة والمقاطع التأملية ذات الطابع الشعري والفلسفي.

تتّسم قصص المجموعة بأسلوب سرديّ دقيق، يبتعد عن الزخرفة اللغوية ويميل إلى الكتابة من الداخل. الشخصيات تتحدّث من دواخلها لا من مواقفها، وتُركّز…

خوشناف سليمان ديبو

 

يُعد الأديب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي من أبرز وأعظم الروائيين في تاريخ الأدب العالمي. فقد أدرِجت معظم أعماله ضمن قوائم أفضل وأهم الإبداعات الأدبية وأكثرها عبقرية. وتكمن أعظم ميزات أدبه في قدرته الفذة على سبر أغوار النفس البشرية، وتحليل خفاياها ودوافعها العميقة. قراءة رواياته ليست مجرد متعة سردية، بل رحلة فكرية وروحية تُلهم…

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…