رواية « شنكالنامه » لإبراهيم اليوسف.. حكاية ألم وأسطورة بقاء (*)

د. ولات محمد
 
    ترصد رواية “شنكالنامه” المأساة التي تعرض لها الكورد الإيزيديون صيف 2014 في منطقة شنكال/ سنجار على يد تنظيم داعش. تسعى الرواية إلى توثيق فصول من تلك الكارثة وعرض الأسباب الرئيسة والعوامل المساعدة التي أدت إلى وقوعها آنذاك. وحسب وجهة النظر السردية كان بإمكان القوى الكبرى منع حدوث المأساة ولكنها لم تفعل، كما تلقي بالمسؤولية على وسائل الإعلام التي روجت للجريمة والمجرمين بدلاً من إدانتها، إضافة إلى رجال الدين الذين سكتوا عن تلك الجرائم البشعة. وفي ذلك كله يحرص الروائي (في مواضع كثيرة من الرواية) على عدم الخلط بين الدين نفسه وبين من ارتكبوا باسمه تلك الجرائم أو سوغوها مدفوعين بحقد شوفيني عنصري قبل أي شيء آخر.
    الإيزيديون، إذن، تعرضوا لتلك المجازر بسبب انتمائهم الكوردي لا بسبب انتمائهم الديني. هذه إحدى الطروحات المهمة التي تقدمها الرواية وتدافع عنها. وبغية تأكيد كوردية الإيزيدي والتركيز على البعد العنصري للجريمة وفي إجراء فني لافت يسمي الروائي كل شخصياته الإيزيدية بأسماء كوردية، كما أنه يستعيد بعض الأحداث من تاريخ الحركة الكوردية التي تجمع الإيزيدي بالقائد الراحل ملا مصطفى البارزاني، كما يبرز العمق الكوردستاني للإيزيدي اجتماعياً وجغرافياً، من خلال استرجاع الراوي أيام طفولته في قامشلي، عندما كانت أسرته تستضيف الإيزيديين القادمين من شنكال لغايات مختلفة، كي يقول في النهاية إن الإيزيديين كورد أصلاء وإن كانت ثمة أصوات نشاز تذهب بهذا الاتجاه أو ذاك.
تقنياً يقارب الروائي الحدث الشنكالي من خلال راوٍ رئيس سيتضح لاحقاً أنه يمثل صوت المؤلف في روايته؛ فالراوي (مثل إبراهيم اليوسف) هو صحافي كوردي سوري يقيم في الإمارات ويعمل في إحدى صحفها، وبعد حدوث الجريمة يقرر القدوم إلى إقليم كوردستان لتوثيق جرائم داعش وإيصالها للرأي العام، ثم يقرر أن يكتب كل ما يشاهده ويسمعه في رواية سيسميها لاحقاً “شنكالنامه”.
يمازج اليوسف في هذه الرواية بين الحدث الروائي (بشقيه الواقعي والمتخيل) وشذرات من سيرته الذاتية في مراحلها المختلفة. أما المادة الحكائية فيجمعها الراوي/ الشخصية من أربعة مصادر: أولاً من مشاهداته الميدانية بوصفه صحافياً يتنقل بين جنوب كوردستان وغربها، وثانياً من متابعاته لوسائل الإعلام المختلفة قراءةً ومشاهدةً، وثالثاً وبالدرجة الأساس من استماعه إلى شهادات الفتيات الناجيات من قبضة داعش، ورابعاً من خلال علاقاته الشخصية ببعض العائلات الإيزيدية قبل الحدث وفي أثنائه على حد سواء.
 في فصل بعنوان “الخليفة يعفو” يكشف الراوي الصحافي عن استراتيجيته في كتابة هذه الرواية فيقول: “ما أكتبه رواية أحاول توخي الصدق فيها، بالرغم من أنني أمزج فيها مابين الواقع والخيال. ولقد كتبت بعض الفصول قبل إجرائي لأية لقاءات مع الناجين من الأسرى، إلا أنها جاءت متطابقة مع تصوراتي (…). أكثر من قصة، اضطررت أن أعدل في بعض تفاصيلها، عندما وجدتها تنطبق على من التقيت بهم، وذلك لأبعد الحرج عمن التقيت بهم، أو بهن“. هذه الإشارة التي تأتي في النصف الثاني من الشريط السردي تكشف على لسان الراوي عن استراتيجية اليوسف القائمة على المزج بين الواقعي والمتخيل في نصه الروائي؛ فبقدر ما تستند الوقائع والشخصيات والمكان والزمان في هذه الرواية إلى حدث حقيقي (مأساة شنكال) يعمل الروائي ـ كذلك ـ على إخضاعها لمختبر التخييل، ليس فقط بإضافة أحداث أو شخصيات من الخيال، بل من خلال إخضاع الواقعي نفسه لسطوة الخيال ولعبته ومختبره، لتكون الرواية في النهاية نتاج عملية تلاقح بين عمل الصحافي (من تسجيل لوقائع وشهادات فعلية) وعمل الروائي (من خلال إخضاع تلك المادة لمختبر التخييل).
لكل ذلك لا يعمل الروائي على نقل الحدث على شكل ريبورتاج صحافي، بل يخضعه لعمليتين مهمتين: الأولى تتمثل في تعميق الألم حتى يبلغ مدياته القصوى التي تنتفي معها الحدود الفاصلة بين الواقعي والخيالي. أما الثانية فتتمثل في إخراج الحدث في قالب أسطوري فانتازي، وذلك عندما يكون حجم المأساة أكبر من الواقع وتكون اللغة عاجزة عن احتوائها في شكلها الواقعي، وحينما تكون القدرة على البقاء ومقاومة الموت شبه معدومة في المقابل.
على المستوى الأول يسخّر اليوسف (وهو الشاعر أصلاً) الكثير مما في لغة الرواية من طاقة بغية تصوير المشاهد المؤلمة والقاسية التي تعرض لها الإيزيدي، ليضع قارئ الرواية أمام معادل موضوعي يتمثل في السردي ـ الخيالي الذي يعادل عمق المأساة وشدة الألم في حدوثه الواقعي حيناً ويتجاوزه أحياناً كثيرة، كما يتجلى في هذه المشاهد الروائية المؤلمة:
 ـ تفر أسرة بينها امرأة حامل مشياً إلى الجبل (المسافة بالسيارة 35 دقيقة) وتلقى معاناة شديدة في الطريق، وفور وصولها تضع الحامل مولوداً، ولكنها تموت عطشاً لأن زوجها كان قد تخلص من جالون الماء في الطريق لكثرة الأحمال وشدة التعب، أما المولود فيرضع من أمه وهي ميتة. ـ عائلة أخرى تهرب باتجاه الحدود السورية، ولأن الأب لا يستطيع حمل أولاده الصغار جميعاً يقرر ترك أحدهم عند صخرة ليعود إليه فيما بعد، ولكنه عند العودة لا يجده ثم يؤتى بجثته إلى أحد المشافي.  ـ مشهد آخر يصور مأساة رجل أعدموا والده وأبناءه وسبوا زوجته، فيقرر الانضمام لداعش كي يتسنى له البحث عن زوجته في معسكراتهم، وعندما يعثر عليها يجدها في ساحة إعدام مع مجموعة من النساء ويشاهدها وهي تحترق عارية أمام أنظار الناس مع أخريات وسط الساحة. ـ أما ذروة هذه المشاهد القاسية فيتمثل في قصة أسيرة حرموها من الطعام لمدة أسبوع ثم قدموا لها لحماً، وبعد أن تناولته بنهم الجائع وشبعت قالوا لها:” لقد ذبحنا ابنك. وما أكلته، كان لحمه….!“. الموت هنا لا يعود مجرد موت يتقبله العقل، بل موت يتجاوز حتى حدود الخيال. وهنا تكمن قسوة الألم التي لا يتوقف الشريط السردي عن عرض مشاهده في رحلة تعذيب من نوع ما للقارئ نفسه.
على المستوى الثاني ينسج اليوسف نصه الروائي مازجاً بين الحدث الواقعي وقرينه الفانتازي الذي يصنعه مستنداً إلى قراءته للموروث الديني الإيزيدي الذي يبدو الجهد البحثي المبذول فيه واضحاً، إذ يجعل منه ومن طقوسه وسيلة لإظهار الحدث في صورته الفانتازية أو الأسطورية. اللافت في هذا المزج أن القارئ قد لا يشعر أحياناً بالفارق في أثناء التنقل بين الواقعي والمتخيل أو المزاوجة بينهما، ما يشير إلى قدرة المؤلف على إحداث هذه الكيمياء الروائية التي جربها من قبل في رواية “شارع الحرية” أيضاً. أبرز المشاهد التي يمكن ذكرها في هذا السياق ما يرويه العم فلات الثمانيني الذي يداهم الدواعش بيته بعد أن ودع زوجته بريزاد وأسرته التي هربت إلى الجبل، إذ يقول بألم: “تفاجأتُ برشقة رصاص على الباب. دخل ثلاثة من هؤلاء لمحوا الطواويس. صوّب أحدهم سبطانة رشاشه نحوها، ورشقها بالرصاص. دارت الطواويس حول نفسها. ارتمت في دمها. ثم وقبل أن يقطعوا الأمتار القليلة التي تفصلني عنهم، وجدتها، تجمع أرياشها المتناثرة، وتحلّق. نظر هؤلاء إليها، وجهوا إليها سبطانات رشاشاتهم. لم تعد تطلق…!“.
هل يمكن الحديث عن الطاووس في مثل تلك الظروف العصيبة إيزيدياً إلا محملاً بهذا البعد الأسطوري وبهذه القدرة الخارقة الخارجة عن الإمكانات الطبيعية للكائن؟! الجميل هنا أن العم فلات ذاته محملاً بإيمانه وإرثه الديني يتحول بدوره إلى كائن بشري غير اعتيادي يمتلك قوة أسطورية خارقة يستمدها من الملك طاووس نفسه، إذ يتابع متحدياً وراوياً واصفاً لما حدث لهؤلاء المقتحمين بيته:
افعلوا ما شئتم، لن أبدّل ديني. 
حاول أحدهم صفعي، فارتدتْ يده، وتوقفتْ في الهواءما أعظمك يا ملك طاووس. (…) حاول أحد رفيقيه تحريكه. تجمد هو الآخر في مكانه. صوّب الثالث الرشاش إليّ. قهقهتُ في وجهه قلت لهم:
أنتم أصغر من أن تقتلوني. 
تركتهم في البيت. ثم سرت من وسط بحزاني، كانوا في الشوارع، والأزقة (…). اخترقتُ سيطراتهم، وأنا أواصل ترديد الأدعية والأقوال. توجهتُ نحو الجبل. خلال ومضة عين حططتُ هناك، التحقت بأسرتي. أعلمتهم بما جرى لي. بكت بريزاد الطواويس. قلت لها لا تبكي. فجأة حطتْ الطواويس الأربعة حولنا. قبّلتُها. احتضنتُها. كان أكثر أهل بحزاني موجودين. قلت لهم: إن أعُد بعد مئة سنة، سيكون هؤلاء الأشباح مسمرين في أماكنهم، كحجارة سوداء، تلدغهم الأفعى (…)! 
 قالت بريزاد: 
لم يلحظ أحد كيف أتيت؟ سمعت رفرفات أجنحة الملائكة تأتي بك. شعرت برائحة غريبة. كل من حولنا انتبهوا. وعندما حططتَ اهتز الجبل (…)!؟”. 
هكذا يؤسطر إبراهيم اليوسف حكاية المواجهة مع القتلة لتكون الأسطرة المستندة إلى المعتقد الديني سلاحاً للمقاومة ينتصر به الإيزيدي الأعزل على أولئك المدججين بكل أنواع الأسلحة، إذ يدور الصراع في هذه الرواية بين طرفين غير متكافئين. ولإيجاد نوع من التوازن بين طرفي المعادلة (الصراع) يمكّن اليوسف شخصياته الروائية الإيزيدية من امتلاك أدوات مقاومة تدافع بها عن وجودها؛ فالإيزيدي هو صاحب أصيل للمكان ومتمسك به وبدينه وحريص على البقاء فيه والدفاع عن كرامته ووجوده. هذه الأدوات النفسية المعنوية تساعد شخصيات الرواية على الصمود وتساعد الحدث الروائي على الاستمرار والتقدم دون أن يكون ثمة حسم منطقي سريع للصراع منذ اللحظة الأولى لصالح الطرف المعتدي الأقوى، ولتكون بذلك هذه الأدوات إلى جانب التوسل بالفنتزة والأسطرة والمعتقد الديني وسائل الإيزيدي للمقاومة والدفاع عن النفس في هذه الرواية.
في هذا السياق تحديداً يتحدث السرد الروائي عن إقدام بعض الفتيات الأسيرات على الانتحار حتى لا يقترب منهن داعشي، وكذلك عن محاولة بعضهن قتل الأمير الداعشي الذي كنّ بحوزته. يقدم السرد هذه السلوكات لشخصيات روائية بوصفها جميعاً أدوات للمقاومة. أما الوسيلة الإشكالية التي تتكرر لدى شخصيات الرواية في هذا الإطار وكانت مثار جدل وخلاف فهي قضية تبديل الدين؛ فقد رفض كثيرون وكثيرات تبديل دينهم فتم إعدامهم، بينما وجد آخرون أن المقاومة تكمن أيضاً في البقاء على قيد الحياة من خلال القبول بتبديل مؤقت للدين، إذ تقول إحدى الشخصيات مثلاً: ” من تبدل دينها تحت سطوة حدِّ سيفِ مجرمٍ غبيٍّ مارقٍ، معذورةٌ. ها أنتن جميعاً، الآن، عدتن إيزيديات.
 هكذا يجعل إبراهيم اليوسف من قساوة الألم في المشهد الروائي معادلاً سردياً لقساوته في المشهد الواقعي ويتخذ من معتقد الإيزيدي وإيمانه وروحانياته سبيلاً للخلاص ومصدراً يمده بالطاقة التي تمكنه من مقاومة سعي الآخر لإفنائه لأن فيه من الإيمان والحق ما يجمّد كل سلاح يُرفع في وجهه ويصيب كل يد تمتد إليه بالشلل، ولأن فيه من الخير والبراءة والروح ما يجعله كائناً أسطورياً لا يتمكن منه بشر يحملون في دواخلهم كل هذه الشرور والقذارة، خصوصاً أنه يحيا رفقة الطاووس الذي لا يُهزم وفي حماية الأفعى التي لا تَغفر. 
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشرت هذه القراءة في نيسان/ إبريل من عام 2019، وقد ارتأيت إعادة نشرها اليوم بمناسبة حلول الذكرى العاشرة على مأساة شنكال.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…