«سارقُ النَّمش» كلّ شيء كان كلمح البصر… وربّما كابوس أبديّ…

أماني المبارك

 غيمة سوداء تنتشر فوق البلاد، السّموم تتأهّب لافتراش الأجواء، والرّصاص الفضيّ يخترق الصّدور، صرخات الأطفال تشي للغريب أن تجَهّز؛ فقد حان وقت الرّحيل، لا وقت للعيون بأن تتهيّأ للوداع فقد أنهكتها الدّموع ، والأيادي تلطّخت بالدّم والقيد. حمل كل تلك المشاهد على ظهره المقوّس واتكأ على عكازة المجهول، لا مؤنس له إلاّ التّساؤلات، كلمّا وصلت مجموعة إلى أقرب إجابة لها، رافقته مجموعة أخرى طريقها أكثر وعورة، يمشي بخطوات ينهشها اللّوم، ويوخزها التّردد أن ارجعي…! مرتحلٌ بين الجبال والتّلال، الأنهار والوديان يبحث عن ملجأ يحتوي كلّ الوجع المتربّع على قلبه، لا ملجأ لصرخته إلاّ السّماء… يتابع سيره المحفوف بالخيانات، فلا ثقة مرتقبة إلاّ بالموت، يقول في نفسه: لعنتي أنّني غريب، وخطيئتي أنّني ما خنت! أفكار تلتهم عقله، وتعب يسّاقط من جسده، في كلّ خطوة رهبة، وفي كلّ نظرة للوراء مصيدة…
 يقف على حافّة نهر، يتأمّل وجهه، لست أنا يا الله، أينني لا أجدني بين كلّ هذه القسوة، حتّى ظلّي تركته تحت شجرة، قلبي الذي اتّخذ من زرقة القِباب نبضه جفّ كما تجفّ الشّفاه في صحراء معركة…لستُ أنا يا الله…لستُ أنا من يقع تحت بقعة ضوء على مسرح الحرب، لستُ أنا من يتحوّل لقاطع طريق، لستُ أنا من يتخلى عن جذوره كلقيط…! بعد سنين من قسوة، وسنين من شيب، يحاول أن يستعيد نفسه، فلا شيء يشبه آدميته، ولا شيء يشير للونه، فأخذ على عاتقه مهمّة إرجاعها، ليتحوّل لسارق نمش! يتسلّل كلّ ليلة لنافذة إحدى الجميلات، يقترب من جسدها، وتحت ضوء القمر يفتّشُ بشغف عن حبّات نمش، يلتقطها بعناية، يجمعها بقبضة يده، ما أن يصل إلى نخلته، يجلس تحتها، يسند ظهره، ويضع ما في قبضته من نمش على صدره، يصرخ صرخته بشراسة ذئب ويدخل في نوم عميق، يستمرّ على هذا الحال إلى أن يملأ النّمش كلّ جسده، لكن في اليوم الأخير عندما تسلّل لإحدى نوافذ الجميلات ليغطّي بقعة صغيرة على كفّه، استفاقت الجميلة من نومها، فزعت من وجْههِ المخيّم على محيّاها وصرخت: ابتعد عني أيّها الجنيّ .. بنظرة اليتيم ابتعد عند النّافذة وصرخ : أنا الغريب عن البلاد ..أنا الغريب عن البلاد!! هرع مسرعا والسّماء تهرع معه بالدّموع، إلى أن وصل لنخلته، ضرب رأسه بها وهو يردّد: لون النّمش يعيدني لأديم الأرض، لون النّمش يعيدني لإنسانيّتي….! أرى الغريب الآن على بعد خطوات من بلاده، يحمل بنفسجة بكفّه ذات البقعة البيضاء، يتأمّل الحدود، يتنهّد صمتها، يشتمّ رائحة الموت، يقترب من مقبرة، يحني ظهره، يملأ كفّه بحفنة من ترابها، يرمي زهرة البنفسج ويعود غريبا ..غريبا!! والجميلة ما زالت متسمّرة تحت ضوء القمر أمام نافذتها، تَرْقبُ رجوع الجنيّ!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…

نجاح هيفو

 

عندما نتحدث عن الذكورية، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو السلوكيات الفردية التي يمارسها بعض الرجال تجاه النساء: تحكم، تمييز، عنف، وتهميش. لكن الأخطر من كل ذلك هو ما يسمى بـ ذكورية المؤسسات، وهي الذكورية المتجذرة في أنظمة وهيكليات المجتمع، بدءًا من القانون والتعليم وصولاً إلى الأحزاب السياسية والسلطات الحاكمة.

ذكورية الرجال قد تتغير…