حب الحياة أم حب الموت

د آلان كيكاني
استلمنا أول رواتبنا بعد مضي ستة أشهر على مباشرتنا للعمل كأطباء مقيمين في مستشفى عام. وبعدها بأيام كنا، أنا وصديقي الحلبي محمد سعيد، في مناوبة ليلية، وفي المساء وبعد أن ادى محمد سعيد صلاة العشاء جلسنا نتسامر في غرفتي، قال لي: 
– لم تقل لي ماذا فعلت برواتبك؟
قلت له:
– قل أنت أولاً، ماذا فعلت؟
– كان ينقصني عشرة آلاف ليرة سورية لأكمل ثمن قبري بجانب قبر أمي. وأمس الحمد لله سددت المبلغ كاملا، 40 الف ليرة.
تمعنت بوجهه وقلت له:
– أحسبك تمزح!!
– لا والله، أنا جاد فيما أقول.
– يا رجل! لا زلت في الثامنة والعشرين من العمر وتشتري لنفسك قبراً!  بالله عليك ما الذي يدفعك إلى هذا الفعل الجنوني؟؟
– لكي يبقى القبر عبرة ورادعا لي طوال حياتي، هذا أولا، أما ثانياً، كي لا يحتار أحد في دفني فيما إذا حدث لي موت مبكر.
ولما أحسست أن الرجل صادق قلت له:
– طيب، أما كان من الأولى أن تشتري هدية لأمك وأخرى لخطيبتك تفرحهما بهما؟ أليس هذا أفضل من متر مربع من الأرض قد لا تستخدمها إلا بعد خمسين أو ستين سنة فيما إذا أطال الله بعمرك؟
– لا والله. ربما يدفعني قبري إلى التقوى والورع وأنا كل يوم ذاهب إلى عملي أو أت منه ماراً من جانبه.
– يا رجل اتق الله بصدقة لمسكين.. بعملية مجانية لشخص فقير.. ببضعة حبات دواء لمعدم… بمساعدة يتيم…. ببر والديك …وليس بالقبر الذي يمكن أن يكون مصدر اكتئابٍ لك وقد يسبب مشاكل نفسية أكثر خطورة، أو يعكر مزاجك كل وأنت كل يوم تمر من جانبه.
– المهم، هذا الذي فعلته وأنا مقتنع به. وأنا أعرفك عنيداً وسوف لن تقتنع بما فعلته. والآن دورك لتقول لي ماذا فعلت برواتبك؟؟
– قمت بثلاثة نشاطات بمساعدة رواتبي.
– وما هي؟؟
– اشتريت طنبوراً…
قاطعني مباشرة وقال
– استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم…… يا حبيبي ألا تعرف أن لاعب الوتر خالد في نار جهنم؟؟؟ طيب ما لنا … والنشاط الثاني؟
– اشتريت خاتماً لاقدمه هدية لخطيبتي في عيد ميلادها.
– هذه مهضومة ولو أن الاحتفال بعيد الميلاد بدعة وكل بدعة هي ضلالة وكل ضلالة في النار. طيب والنشاط الثالث؟
– دعوت بعض أصدقائي إلى تناول كأس من البيرة في أحد منتزهات كفرجنة بعفرين.
فزّ الرجل ومشي باتجاه الباب وقال مغمغماً:
– اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء من …..
وكان آخر عهدي به.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…