ليس عيباً أن نمدح فيروز، بل العيب ألاّ نمدحها

  هيثم حسين

ليس عيباً أن نمدح فيروز، بل العيب ألاّ نمدحها، لأنّها ليست ممّن نختلف عليهم، ولا ممّن قد نختلف عليهم في يومٍ ما، فقد نختلف في كلّ شيء وعلى كلّ أمرٍ، إلاّ على فيروز، لأنّها لم تكن في أيّ يومٍ إلاّ نقطة الائتلاف وحدها، لأنّها الحقيقة التي لا تقبل جدالاً حولها، مَن منّا لم ترافقه فيروز بصوتها في كلّ مراحل حياته، مَن منّا لم يَنْسكر لصوتها ويهمْ به.. إنّها تتغلغل كالموسيقا إلى أرواحنا، نرتاح إذ نسمعها، نتوق إليها إذا انشغلنا في لحظة ما عنها، وعندما نعانق صوتها كأنّنا نعانق أعزّ أعزّائنا، نحضن أغانيها، نقبّل كلماتها، نهدهد أرواحنا على مركز الجاذبيّة، ننجذب إليها لأنّ سرّ المَغْنطة سيبقى مجهولاً لنا، ففيروز ستبقى مالئة الدنيا وشاغلة الناس..
ماذا نقول عنها، وقد سبقنا إلى ذلك الكثيرون، عشّاقها كثر، وليست تحتاجنا، لكنّنا مَن يموت احتياجاً إليها، في ساعات الهدوء ترافقنا فيروز، وفي ساعات الضجيج تهدّئ أرواحنا فيروزُ، إنّ فيروز تحتلّ حَيواتنا، ونسعد باحتلالها، لأنّها الاحتلال الأرحم على الإطلاق، لا دون من دونها، لا انبعاث إلاّ على صوتها، ما سنقوله عنها لن يبلغ عظمة صوتها الذي يفعل مفعول السحر في الأرواح، ولكنّ سحرها وحيد الجانب، يُركن السعادة وينثر الراحة.. المكان الذي لا يكحّله صوت فيروز هو طلَل موحش، وسيبقى سكّانه مستوحشين، حتّى يجتاح الحبّ أرضهم بصوت فيروز، فيروز هي الحبّ، هي الماء للعشّاق والهواء، معها يحيون ومن دونها يتلاشون، صوت فيروز هو الرمز، وهو اللغز، فعفواً فيروز، نحن نستطيع تشرّب صوتك، لكنّنا لا نستطيع التعبير عن حالتنا ونحن نتنشّقه، فهو يُفهَم ولا يُترجَم، هو كالزمن، كالشعر، بل أبلغ منهما، يُعرف ولا يُعرّف، كالحبّ يعاش، ولا يوصَّف، كالماء جُعل منه كلّ شيء حيّ في أرواحنا..
يقولون إنّ فيروز ستغنّي في دمشق، ومَن قال إنّها قد بارحت دمشق، فيروز تحتلّ دمشق؛ تخيّم على أبوابها، تعرّش كالياسمين في حاراتها، لم تبرح في يومٍ ما دمشق، فهي تعود كلّ صباح ومساء المَرْضى وتسعف المشتاقين، تؤمّل المنتظرين، وتفرّج عن المتألّمين..
ستجيء فيروز في غيهب الغسق، ستنوّر دمشق كالكوكب الدرّيّ في الأفق، ولن تخشى الحرّاس، لأنّها تركب البحر، حيث يُسيّر موكبها الحبُّ ويتبعها الجمالُ، لذلك فإنّها لا تخشى من الغرق.. سوى أنّها تخشى من إغراق عشّاقها بالحبّ والجمال، وهذا ليس من حقّها، إنّه الكمال، المحتَّم، المفرِح..
ستغنّي فيروز في دمشق للكلّ وبالكلّ، لكنّ مَن سيحضر الحفلة، سيكونون من أغنياء دمشق، أمّا الملايين من عشّاقها الفقراء، فسوف يبكون حرقة لأنّهم لن يتبرّكوا بصوتها، ذلك لأنّ سعر التذكرة يفوق راتبَ شهرٍ، وكثيرون ممّن سيحضرون حفلاتها سينقشون ذلك اليوم من ذهب، سيدوّنون في يوميّاتهم، أنّهم قد انتعموا بصوت فيروز وتبرّكوا برؤيتها.. فعذراً فيروز، أنا سأكون من الكثيرين الذين لن يروك، لكنّني سأولّف موجة الروح على صوتك، ستؤالفين بيننا بشموخك، ملكةً أندلسيّة، تغنّي زمان الوصل في دمشق، وسيكون وصلك حلماً لنا في الكرى، وستكون رؤيتك خلسة المختلس، سنردّد كثيراً لأنفسنا، جاءت فيروز لكنّنا لم نذهب، أرجعت فيروز ألف ليلة وليلة، بصوتها الذي لا وصف يرتقي إليه، ولكن لا بأس إن وصفناه مكرّرين بأنّه: الملائكيّ. قطعاً، لم نسمع صوت الملائكة، لكنّنا نجزم، ونقول: قطعاً، لن يكون أجمل من صوت فيروز..
سنقول لمن سيحضرون حفلاتها: يا مرسال المراسيل عَ الضيعة القريبة خد لي بدربك هَالمنديل واعطيه لحبيبي، ثمّ سنضيف دون أن نحاجج: خبّروها أنّنا سننطرها على كلّ المفارق، وفي كلّ الزوايا، سلّموا عليها، وقولوا لها إنّنا نسلّم عليها، وبوّسوا عينيها، وقولوا لها إنّنا نبوّس عينيها، سنحبّ من الأسماء ما سيشابه اسمها، أو يكون منه مدانيا، وسنكتب اسمها على الحور العتيق، وفي قلوبنا، ولن تمحوه الكوارث مهما تعاظمت. تعالي اليوم وتعالي غداً، فلك القلب دون العالمين.. ولك الحبُّ..
لن نأسف أو نغنّي: كَتَبنا وما كتبنا.. لأنّ حقّك علينا منذ الولادة يا فيروز أن نكتب ونكتب، ولكنّنا سنأسف لأنّنا لن نبلغ عظمة صوتك، الذي قد بنينا له أهرامات من الأشواق..
لا يلامس صوتُ فيروز شغافَ القلب، إنّه القلبُ مغموساً بالشغفِ، نحبّ فيروز بإرهابٍ كما يحبّها الشاعر أنسي الحاج، ونردّد معه: “في حياتنا لا مكان لفيروز، كلّ المكان هو لفيروز وحدها..”.

لطالما نسمع صوت فيروز فإذاً نحن موجودون..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عصمت شاهين الدوسكي

 

ربما هناك ما یرھب الشاعر عندما یكون شعره تحت مجھر الناقد وھذا لیس بالأمر الحقیقي ، فالشاعر یكتب القصیدة وينتهي منھا لیتحول إلى تجربة جدیدة ،حتى لو تصدى لھ ناقد وبرز لھ الایجابیات وأشار إلى السلبیات إن وجدت ، فلیس هناك غرابة ، فالتحلیل والتأویل یصب في أساس الواقع الشعري ،وكلما كتب الشاعر…

فيان دلي

 

أرحْتُ رأسي عندَ عُنقِ السماءْ،

أصغيْتُ لأنفاسِ المساءْ،

بحثْتُ فيها عن عُودٍ ثقاب،

عن فتيلٍ يُشعلُ جمرةَ فؤادي،

ناري الحبيسةَ خلفَ جدرانِ الجليد.

 

* * *

 

فوجدْتُه،

وجدْتُه يوقظُ ركودَ النظرةِ،

ويفكّكُ حيرةَ الفكرةِ.

وجدْتُه في سحابةٍ ملتهبةٍ،

متوهّجةٍ بغضبٍ قديم،

أحيَتْ غمامةَ فكري،

تلك التي أثقلَتْ كاهلَ الباطنِ،

وأغرقَتْ سماءَ مسائي

بعبءِ المعنى.

 

* * *

 

مساءٌ وسماء:

شراعٌ يترنّحُ،

بينَ ميمٍ وسين.

ميمُ المرسى، عشبٌ للتأمّلِ وبابٌ للخيال

سينُ السموّ، بذرةٌ للوحي…

ربحـان رمضان

بسعادة لاتوصف استلمت هدية رائعة أرسلها إلي الكاتب سمكو عمر العلي من كردستان العراق مع صديقي الدكتور صبري آميدي أسماه ” حلم الأمل ” .

قراته فتداخلت في نفسي ذكريات الاعتقال في غياهب معتقلات النظام البائد الذي كان يحكمه المقبور حافظ أسد .. نظام القمع والارهاب والعنصرية البغيضة حيث أنه كتب عن مجريات اعتقاله في…

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…