الفنّانون الكرد, رحلةُ وفاءٍ مع الغناءِ الكرديّ الفنّان رفعت داري ( 1938- 1990)

  نارين عمر

نرى الفنّ غذاء الرّوحِ, وشرابَ النّفس في كلّ زمانٍ ومكانٍ. ونجدُ في الغناءِ رفقة العمر وسلوانه في كلّ مراحله وأوقاته. تبهجُ مسامعنا بنفحاتِ الغناء التي تدغدغه متسرّبة من نسائم الطّربِ التي تلجها بيسرٍ وعذوبة لتستقرّ فيما بعدُ في نبضات الذّاكرة التي لا تتوقّف عي الجريان إلا إذا سكتتِ الرّوح وهمدَ الجسد.
إذا كان هذا هو إحساسنا بالفنّ, وشعورنا بالغناءِ, فكيف يكون تعاملنا مع مَنْ يبدعُ الفنّ, ويهبه الرّوحَ والجسد؟! وتحديداً الفنّان الذي يملك الصّوتَ والأداء والحضورَ الفنّي, والذي يهبُ عمره قرباناً للحفاظِ على التّراثِ الفنّيّ والغنائيّ, ويمنحُ النّفوسَ التي تستقبلُ صوته, والأسماعَ التي تصغي إليه الطّربَ والنّشوة والاستمتاع.

رفعت داري بلا أدنى شكّ كان من الفنّانين الذين دوّنوا اسمهم بأحرفٍ من مدادِ الخلدِ في هذا السّجّل المقدّس, لأنّه كان دخل إليه بجدارةٍ وسلاسة.
الولادة والمنشأ:
ولدَ فنّاننا في عام 1938م في قرية (دارا), وفيما بعد رحل مع عائلته إلى قرية (حاصدا) التي تبعدُ عدّة كيلومترات من مدينة (عامودا), واستقرّ بهم المقام هناك.
عُرِفَ عنه حبّه لأهله وشعبه ووطنه, وكذلك طيبته وإخلاصه واحترامه لآراءِ الآخرين والاستماعَ إليها برحابةِ صدر, وفي ذلك يقول الكاتب الأستاذ داريوس داري:
((الفنّان رفعت داري كان ملتزماً بفنّه, محبّاً لبني قومه, يسمع رأي الآخر بصدر ٍ رحب لأنّه كان فنّاناً صادقاً وإنسانا مؤمناً)).
لملم فنّاننا أشتاتَ جسده في العاشر من شهر آب من عام 1990م, وهو يغنّي على أحد المسارحِ, تاركاً روحه ترفرفُ في سماءِ الفنّ الكرديّ تنثرُ أصداءَ صوته القويّ الهادئ في آفاقِ الغناءِ الأصيل.

نشأته الفنيّة:
ولدَ رفعت داري فنّاناً موهوباً, لأنّه تلقّى دروساً فنيّة في صوابِ الأداء وصدق التّعبير  من أمّه التي كانت تغزل لمسمعيه أرقّ الألحان وهو يلهو مستمتعاً في رحمها الوثير, وكذلك كان يصغي إلى والده وشقيقه الأكبر الّلذين كانا يملكان الصّوت العذب والأداء الممتع. حين حلّ ضيفاً عزيزاً على حضن الكون بدأتِ الموهبة تنمو مع نموّه الجسديّ والعقليّ, لتتحوّل مع مرور الوقتِ إلى احترافٍ وإتقان.
بدأ الغناء منذ الطّفولة بتشجيعٍ من أهله وأبناءِ بلدته ومحبّيه, وبثقةٍ كبيرةٍ بصوته وأدائه الّلذين لم يخيّبا ظنّه بهما حتى آخر لحظةٍ من عمره.
بالإضافة إلى والده وشقيقه الأكبر ساهم أناسٌ آخرون في مسيرته الفنّية ومن أبرزهم الفنّان الشّعبيّ والشّاعر المرحوم (علو فات داري)).
شاركَ رفعت داري في العديد من الحفلاتِ الغنائيّة والسّهرات ومجالس الغناءِ والطّرب. كان يجتمعُ بكبارِ السّنّ الذين يهتمون بالشّأن الفنّي والغنائيّ, ويستمعُ بعشقٍ إلى أحاديثهم ونتائج عراكهم ومعانقتهم للحياة, ثمّ يصوغُ منها أغانٍ رائعة تبهجُ النّفسَ وتسرّ الخاطر. وقد كان هذا الأمر يكلّفه أحيناً قطع عدّة كيلومترات سيراً على القدمين لينتقل من قريةٍ إلى أخرى ومن مكانٍ إلى آخر. فمثلاً كان يقطعُ يومياً مسافة طويلة مشياً على قدميه ليصلَ إلى قريةِ دودا ويجتمعَ بكبار السّنّ ومحبّيه هناك.
من أشهر الحفلاتِ التي شارك فيها كانت حفلات لبنان الغنائيّة في بداية سبعينيّات القرن العشرين, وفي ذلك يؤكّد الكاتب داريوس داري:
((في عام 1971م  دعي إلى لبنان من قبل الكردِ الّلبنانيين و الجالية الكردية في لبنان ليقدّم عدّة حفلاتٍ مع زملائه الفنّانين أمثال الفنّان الموسيقار محمد شيخو والفنّان الكبير الأستاذ محمود عزيز أمدّ الله  بعمره, وليعطينا  المزيد من فنّه وإبداعه. بعد الانتهاء من الحفلة دعي فنّاننا إلى التّلفزيون الّلبنانيّ على الهواء مباشرة و أجرى معه الحوار المذيع المخضرم / رياض شراره / وغنّى رفعت داري ساعة كاملة على الهواء من تلفزيون لبنان و من أهمّ ما غنّى أغنيته الشهيرة:
 ( (Hemê birin eskeriyê. وغيرها من أغاني الفلكلور الكرديّ ومن فنّه العريق وصوته الجميل)) .

أشهر الأغنيات التي أدّاها رفعت داري:
يعدّ أوّل فنّانٍ كرديّ غنّى عن سينما عامودا وعن شهداءِ عامودا التي تركتْ في نفسه ووجدانه الأثرَ الأعمق كما هو الحال لدى كلّ عاموديّ.
لأنّه كان يمتلك الصّوتَ القويّ والأداءَ المبدع فقد اشتهر بأداءِ الملاحمِ الغنائيّة الكرديّة مثل: (حمدين وشمدين, فاطمة صالح آغا, سر ملي مامد باشا, ناصر بك, كوجرا هومانة) وغيرها من روائع الغناءِ الكرديّ, وما أزالُ أتخيّلُ حتى هذه الّلحظة الدّموع التي كانت تخدع عينيّ نساء عائلتنا وهنّ يستمعن إليه وهو يغنّي بطلاقةٍ وإبداعٍ (حمدين وشمدين, وفاطمة صالح آغا).
لم يكتفِ بأداء الملاحم فقط, بل أدّى كلّ أنواع الغناءِ الكرديّ. غنّى للعشقِ والعشّاق, فصارَ مؤنسَ سهراتهم ومهدهدَ أحلامهم. غنّى للوطنِ الذي كان يرى من خلاله كيانه وماهيته, فمنحه الشّهرة والوداد. غنّى للطّبيعةِ التي كانت ملهمته الأخرى بعد أمّه وأبيه, فوهبته الإبداع والتّألق. غنّى لكافة الأعمار انطلاقاً من نفسه التي كانت عاشقة للحياةِ والحبّ والطّبيعة, لذلك كان يحضرُ حفلاته الشّبان قبل الكبار, وتتراقص على أنغامه النّساءُ قبل الرّجال.
ظلّ رفعت داري مخلصاً لفنّه الذي عشقه وأخلصَ له, فبادله الفنّ العشقَ ذاته, والإخلاص بعينه, وخير دليلٍ على ذلك أنّه أهداه شرفَ الرّحيل الأبديّ من هذا العالمِ وهو على خشبةِ المسرح  يغوصُ في عالم الفنّ الهانئ, فهل أخلصنا له ولفنّه الأصيل النّقيّ بعد رحيله كما أخلصَ هو لنا؟ وهل نستذكره منذ رحيله وحتى اليوم ببضع كلماتٍ أو عبارات؟؟

ملاحظات:
*-أوجّه باقاتِ شكرٍ وتقدير إلى الكاتب الأستاذ داريوس داري الذي أمدّني بمعلوماتٍ وافيةٍ عن الفنّان رفعت داري, وتربطهما رابطة العمومة.

*-صورة الفنّان من أرشيف الأستاذ داريوس أيضاً.

*-علو فات داري: فنّان شعبيّ وشاعر كرديّ من مدينة عامودا وهو كاتب كلمات أغنية ((عيشانا علي)) الشّهيرة, وسوف نستضيفه في حلقةٍ مقبلة من حلقاتِ هذه السّلسلة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

 

رجع “أبو شفان” إلى البيت في ساعةٍ متأخرة، يجرّ خطواته كما لو كانت أثقل من جسده المنهك. وجهه مكفهر، ملامحه كانت كمن ذاق مرارة أعوام دفعةً واحدة. ما إن فتح باب الدار، حتى لمح ابنه البكر “مصطفى” جالسًا في العتمة، ينتظره كأنه ينتظر مصيرًا لم يأتِ بعد.

– “أهلاً أبي… تأخرتَ الليلة”.

– “كنتُ في مشوار…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

مَدرسةُ فرانكفورت ( 1923 _ 1970 ) هِيَ مَدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفةِ النَّقْدية ، مُرتبطة بمعهدِ الأبحاثِ الاجتماعية في جامعة غوتة في مَدينة فرانكفورت الألمانية ، ضَمَّتْ المُفكِّرين والأكاديميين والمُنشقين السِّياسيين غَير المُتَّفقين معَ الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية المُعَاصِرَة ( الرأسماليَّة ، الفاشيَّة ، الشُّيوعيَّة ) في ثلاثينيات القرن…

عبدالاله اليوسف

 

لكن الهواءَ يحفظُ صوتكَ في الشقوق

بين تنهيدةٍ

ونَفَسٍ لم يُكمِلِ الطريق

 

قلبُكَ

ساعةٌ لا تُعيرُ الوقتَ اهتمامًا

تمرُّ عليها الأزمنةُ

ولا تشيخ

 

تخجلُ

من مرايا الوجوه

فتعيدُ تشكيلنا

كما تشاء

كأنك تصنعُنا من بُعدٍ

بحركةِ عينيك فقط

 

نلتفت

حولنا

أضيافك

نرتدي ظلالًا

ولا ندري

غريب ملا زلال

ليست سوى الحرب
تأكل أضواءنا
و رجالها
في دهاليز المملكة
يكيلون دماءنا
مُذ عرفت
أن الرب
في عليائه يستريح
كمحارب قديم
أتى تواً
من الجبل
و أحلامنا ..
آمالنا
تذهب في الريح
بحثاً عن أشلائنا
هل كانت الأمور
في السموات العشرة
على ما يرام
حين خلت المدينة
من أبنائها
إلا من بقي نائماً
تحت الركام
و زخات المطر
بعد القصف
هل كانت
دموع الرب في عليائه
على عباده
أم كانت
رذاذات صرخة
لطفل يبحث عن أمه
كل المعابد
لا تصلح لإطفاء الحريق
فالرب متعب
والكهان متعبون …