«باهوز»: الشريط الذي حوصِرَ وظُـلم وغُبن كردياً وتركياً!

  اسطنبول – هوشنك أوسي

إن لم يكن الشريط السينمائي الكردي «باهوز» للمخرج كاظم أوز، الفيلم السياسي الأوّل في تركيا، فإن في إمكاننا اعتباره النقطة السينمائيّة الأكثر أهميّة وعمقاً ودلالة لرصد جانب من الحراك السياسي الطالبي الكردي في تركيا، خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وذلك في تناوله البيئة الطلاّبيّة الكرديّة في الجامعات التركيّة، وتفاعلها مع الحدث السياسي، كرافد مهم، يمدّ الحراك النضالي الكردي، بالدعم المادي والمعنوي. يسعى فيلم «باهوز» ومعناه بالعربيّة (العاصفة)، الى رصد جانب من العلاقات الإنسانيّة بين «رفاق الدرب»، في معمعة النشاط الطالبي وحمأته، الى جانب كشف أمور كثيرة من حالات الضياع والتوهان الذي كان يعيشه المجتمع الكردي، بفعل حملات القمع والصهر القومي التركي، قبل انطلاقة الحركة السياسيّة الكرديّة، عام 1978، من الجامعات التركيّة، نحو المدن فالجبال. ووصول هذا الحراك الى أوجه في الجامعات التركيّة، مطلع التسعينات.
حكاية «باهوز»
ينجح الطالب جمال (يلعب دوره جاهد غوك)، في امتحانات القبول الجامعي، فيغادر قريته التابعة لمحافظة دريسم (شهدت سحق آخر انتفاضة كرديّة عام 1938، حيث تمّ قصف المدينة بالطائرات التركيّة، وحدث مذابح، راح ضحيتها، بحسب الإحصاءات شبه الرسميّة 12 ألف كردي علوي)، جنوب شرق تركيا، الى مدينة اسطنبول. وهو حين يقطع نهراً، على متن عبّارة. يكون أوّل مشهد تقع عيناه عليه، جنازة أحد الموتى، ونحيب وعويل النسوة حوله، على متن عبّارة أخرى ذاهبة للقرية. في لحظة يأخذ جمال حجراً من حافّة النهر، ليبقي هذا الجحر معه طيلة الفيلم. يتأمّله، ويكتب عليه بعض الكلمات. يلتحق جمال بجامعته، مترعاً بدهشة وانبهار الإنسان الريفي، وارتباكه. وما يلبث أن ينسجم ويتأقلم.
وفي الجامعة، ثمّة طالبان، هما: هيلين (تعلب دورها اسية دينجسوي)، وعلي (يلعب دوره علي غيتشملي)، ينشطان سياسيّاً، ويتابعان الطلاّب الجدد، المسجلِّين في الجامعة، بغية التعرّف إليهم واستقطابهم الى مجموعتهم. ويبدأ هذان التعرّف إلى جمال. لكنّه، هو يبقى لامباليّاً، حتّى بعد النقاشات والحوارات التي تدور بينهم حول الهويّة والانتماء القومي، وحالات القمع والصهر التي يتعرّض لها الأكراد في تركيا.  لامبالاة جمال، بجذوره، وإصراره على أنه تركي، ورفضه قراءة مجلّة كرديّة، يدفع الفتاة هيلين، الى صفعه، والصراخ في وجهه، وتعنيفه، علّه يصحو من سبات الانصهار والاغتراب. لكن دون جدوى. لكن، بدأت تباشير الشعور بالاختلاف والانتماء الكردي تتولّد عند جمال، حين يشاهد امتعاض ركّاب الباص، من حديث كرديين بلغتهما الأمّ، وقول الركّاب لهما: «أنتما في تركيا، فلا تتحدّثان بلغة غريبة!». وحين يرفض الكرديان ذلك، يهجم عليهما ركّاب الباص، من الأتراك، دفعة واحدة، وإنزالهما من الباص عنوة. حينئذ، يشعر جمال بحقيقة ما يعانيه الأكراد، ويشعر بالخجل، وتأنيب الضمير، لأنّه لم يحرّك ساكناً، أثناء طرد الأتراك الكرديين من الباص. هنا يتذكّر كلام هيلين وتعنيفها له. ويبدأ هو في البحث عن هيلين وعلي، ويتودد لهما. وانطلاقاً من هنا نرى جمال منكبّاً على قراءة الكتب السياسيّة الكرديّة بنهم، ولا يجد نفسه إلا منخرطاً في النشاط الطالبي. يشارك في الاعتصامات، ويُنظّم التظاهرات. ووصلت به الجرأة القوميّة والسياسيّة إلى إلقاء قنابل المولوتوف على مركز الدولة والبوليس التركي، أثناء اشتباك الطلبة مع البوليس!
هنا وبعد أن أصبح جمال من أبرز رموز النشاط الطالبي في جامعة اسطنبول، تعرّض للاعتقال مع صديقه الحميم أورهان (يلعب دوره سليم آكغول). ويتعرّض لتعذيب شديد بالضرب والتعليق بسقف الغرفة، والكيّ والحرق بأعقاب السجائر… الخ، إلاّ أنّه لا يعترف بأنه من النشطاء في الجامعة. حتّى بعد أن تتمّ مواجهته بأحد الطلبة الذين اعترفوا تحت التعذيب، يبقى جمال معانداً، مصرَّاً على إنكاره. وفي السجن، يتعرّف كل من جمال وأورهان إلى معتقل سياسي تركي، وتنشأ بينهم مودّة. ويلوذ جمال وأورهان، في عتمة السجن، وبعد جولات التعذيب، بالغناء. يتمّ الإفراج عن جمال وأورهان معاً. فيستقبلهما رفاقهما بترحاب شديد.

عمق إنساني

معمعة النشاط السياسي، وسخونة الأحداث في فيلم «باهوز»، لم تفقده مساحات هامّة، من الكوميديا الخفيفة. إلى جانب رسمه علاقات إنسانيّة رفاقيّة تواشجيّة عميقة. ومنها، نشوء علاقة حبّ شبه معلن، بين هيلين وعلي. والانتقادات الموجّهة الى هذه العلاقات، بحجّة أنها تؤثّر على الحراك الطالبي، ما ساهم في إطفاء تلك العلاقة. في المقابل كانت هنالك علاقة مبطّنة، وحبّ مشترك من قبل أورهان وجمال لروجدا (لعبت دورها، هافين فونداساج). والأخيرة كانت ميّالة لأورهان. وهنا رويداً تبدأ شبكة العلاقة بين المجموعة الطالبيّة الناشطة تتفكك. فزعيم المجموعة، غادر اسطنبول، في مهمّة الى الجبال. وتمّ اعتقال علي وهيلين وآخرين. وأورهان، قتل برصاص البوليس التركي، من الخلف، أثناء هروبه. أما روجدا فالتحقت بالمقاتلين بالجبال. ولم يبقَ سوى جمال، مسؤولاً عن التنظيم الطالبي في الجامعة. في حين أن استخبارات الأمن الجامعي استدعت والده كي يحضر، ويعيد ولده الى جادة الصواب! لكن الوالد فشل. ما يختتم أحداث فيلم «باهوز» على نهاية مفتوحة، تحاكي البداية، في حركة دائريّة ذات دلالة وعمق رمزي. وذلك بعودة جمال الى قريته. لكن، ليس كما غادرها أوّل مرّة. إثر مغادرته اسطنبول، لكن ليس كما زارها أوّل مرّة. وأثناء وجوده على متن العبّارة التي تقلّه من الضفّة الاولى للضفّة الثانيّة للنهر، قريباً من القرية، تقع عينا جمال على عرس، في إشارة الى ولادة جديدة له. خلاف المرّة الأولى التي صادف فيها جنازة إنسان ميت، ترمز إلى جنازته. ويلقي جمال بذلك الحجر الذي رافقه الى النهر، في استحضار الماضي، وتنشّق الهواء بعمق.
ولئن كانت مدّة شريط «باهوز» طويلة (156 دقيقة)، إلاّ أنّ إيقاع السيناريو، واكتظاظه بالعقد الدراميّة، إلى جانب حساسيّة المشاهد، وعمقها، واندغامها مع الموسيقى التصويريّة الرائعة لوداد يلدرم، خففت من وطأة طول مدّة الشريط. وكان بالإمكان تكثيف العمل، والاستغناء عن الكثير من المشاهد، التي بدت باعثة على الملل، نوعاً ما.

عن باهوز

هذا الفيلم كتب له السيناريو كاظم أوز، وشارك فيه من 2000 الى 2500 شخص، بين ممثلين وفنيين وكومبارس. والحال أن كلّ الذين شاركوا في الفيلم هواة، ما عدا بعض خرِّيجي المعهد العالي للفنون المسرحيّة والسينمائيّة، وكانت مشاركتهم في الفيلم، هي الأولى لهم في عمل سينمائي، إلى جانب بعض مشاهير السينما التركيّة كالممثل المعروف علي سورملي (لعب دور البوليس السّري المدني في الجامعة)، وسنان بانغينر (لعب دور والد جمال). وعرض الفيلم للمرّة الأولى في مهرجان اسطنبول السينمائي عام 2008. وعن ظروف العمل، تحدّث أوز لـ«الحياة» بالقول: «الممثلون الأساسيون، لم يتقاضوا أيّ أجر. وحين صوّرنا بعض المشاهد الحساسة، اضطررنا أن ندفع بعض أجور الكومبارس، نصف ما يستحقّون! مشاهد الاعتصامات والتظاهرات، تمّ تصويرها خارج الحرم الجامعي. واستعنّا بالديكور، لخلق جو مطابق لما هو موجود في جامعة اسطنبول». ويضيف أوز: «وصلت كلفة الفيلم لـ 500 ألف دولار. وما خفف من الكلفة، عدم تقاضي الأبطال أجورهم، ناهيكم عن مشاركة الكثيرين بشكل تطوّعي، حبّاً في السينما، ودعماً للفيلم ومقولاته. وقام قسم السينما في مركز موزوبوتاميا الثقافي، بتحمّل قسم من نفقات الإنتاج، وتأمين الباقي من بعض البلديّات الكرديّة، وبعض رجال الأعمال الأكراد، ومحبّي السينما. إلاّ أن الفيلم، لم تغطِّ عوائده نفقاته!». أما الدولة فإنها لم تحظره في شكل مباشر، إلاّ أنّها، قامت بوضع العراقيل أمامه، من وراء الكواليس. بالنتيجة، هذا الشريط، حوصر وغُبِن وظلم تركيّاً وكرديّاً. كما أن الإعلام الكردي، وفضائيّاته، تجاهلت الفيلم، وكأنّه لم يكن ولا يعبّر عن الحراك النضالي الطالبي الكردي في تركيا». ويشير أوز الى مفارقة، تؤكّد المقاطعة الكرديّة لفيلمه بالقول: «قبل أيام، كان هنالك مهرجان الفيلم الكردي في ديار بكر. أدرجوا الفيلم ضمن العروض، ثمّ حذفوه. وقالوا لي: نوجّه لك دعوى الحضور، لكننا لن نعرض فيلمك!

عن الحياة اللندنيّة

الجمعة, 22 يناير 2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…