selahberwari@gmail.com
جلسَ (عُمَر خاوَر) عند حافة ضريح طفله، يذرفُ الدمعَ مدراراً، ويملأ جو المقبرة آهاتٍ وتنهّدات. أحس بيدٍ حانية، تـُربِّتُ على كتفه؛ فالتفتَ مذعوراً ومشدوهاً:
– مَن تراهُ يكون، زائرُ الظلام هذا؟. أمِن المعقول أن يكون طفلي قد خرج من قبره، على غفلةٍ مني، وجاء ليداعبني هكذا؟.
لم يستطع تمييز صورة الشخص؛ الذي بدا له كشبح حقيقي، بسبب الظلام الدامس في المقبرة، وامتلاء عينيه بالدموع!.
– عمر… يا صديقي العزيز، هذا الذي تفعله كل ليلةٍ هو عين الجنون!. الناسُ يتهامسون حول صحتك العقلية!. أمِن المعقول أن تخرج في أنصاف الليالي، لتزورَ قبرَ ولدكَ، وتناجيه لساعات؟!.
أطلق عمر تنهيدة، كادت أن تخرج معها أحشاؤه:
– ليقل عني الناس ما يشاؤون. أمن المعقول أن أفقد طفلي الذي انتظرتهُ لسنين؟. أية عدالة هذه، أن أفقد ولدي، بعدما صار زهرة زاهية، يطبق أريجها أجواء “حلبجة”؟!. سأظل أذرف الدموع على قبره في كل ليلةٍ، بعيداً عن أعين الناس؛ فلعل زهرة ً تنبت على قبره، بدموعي هذه، تحملُ بعضاً من عبقه!.
عاد عمر مع صديقه إلى البيت، وهو يحس بأنه يعود جسداً بلا روح!. فالروح ظلت، وستبقى هناك، تعانق فلذة كبده، المطمورة قسراً في التراب!.
مسحت زوجته دموعه بحنان:
– عمر… يا حبيبي، مرت شهور وأنت على هذه الحال. إنك تقتل نفسك وتقتلني هكذا!.
– وما عساي أن أفعل يا عزيزتي؟. إن طيفه لا يفارقني أبداً، في البيت، في الحقل، وفي كل مكان!. أنا أعرف أنه لن يعود؛ لكنّ قدمايَ تقودانني إليه في كل ليلةٍ، رغماً عن إرادتي!.
همست زوجته المُحِبّة، في أذنه:
– وماذا لو أخبرتكَ بأنني حامل!.
صُعِقَ عمر من هول المفاجأة!، وهجم على زوجته، يحتضنها ويعتصرها بقوة.
– أوه… يا عمر!، إنك ستـُسقِط جنيني هكذا!.
مسح عمر دموعه، وهو يتحسس بطنها بحنان جارف:
– إذن، فلتعجّلي يا عزيزتي… إني أتحرق شوقاً لاحتضان طفل!.
مرت الشهور على عمر، وكأنها دهور!.
خرجت القابلة وهي توَلول وتزغرد:
– كاكه عمر… مبروك!. لقد أنجبت زوجتك ولدين!.
سقط عمر على ركبتيه، بعدما خذلتاه. رفع يديه إلى السماء، ودموع عينيه تجريان على خديه، كنهر “سيروان”:
– أخيراً… تحقق حلمي، يا لرحمة السماء!.
هرع عمر إلى المقبرة، لمسَ تراب قبر ولده بحنان:
– اطمئن يا عزيزي؛ فقد صارَ لك أخَوان. سأجلبهما معي لزيارة قبرك، ما إن يحبوان!.
في كل مرة، كان عمر يحمل ولداً من ولديه، ويقف على عتبة منزله، ليراهُ الناس، ويمطرونه بمعسول الكلام؛ إذ كان حنانه قد أصبح مضرب مثل بين الناس.
– إيه… يا حلبجتي!، بعد سنين قليلة، سيملأ هذان الولدان أزقتكِ صخباً وضجيجاً؛ ستملأ ضحكاتهما كل الأرجاء.
مرت الشهور على عمر، وكأنه في شهر عسل دائم مع الحياة!.
فاق عمر من نومه مندهشاً، على أصواتٍ تهز مدينة (حلبجة). صرخ في زوجته:
– خذي أحد الطفلين، ولنخرج من البيت. يظهر أن زلزالاً قد دهَمَ المدينة!.
خرج عمر من منزله مذعوراً، وهو يحمل أحد طفليه على صدره. رأى الناس يهيمون على وجوههم، بجنون مطلق!. الكل يصرخ ويولول، صغاراً وكباراً.
النساء يلفظن أكبادهن صراخاً، وهن ينادين على أولادهن. الرجال والشباب يركضون ويتساقطون، وهم يحاولون عبثاً إنقاذ الأطفال الصغار.
وقف عمر واجماً، وكأنّ على رأسه الطير:
– ما بالُ أبناء مدينتي؟ ماذا أصابهم؟ لِمَ لا يردّ عليّ أحد؟ أهي القيامة قد حانت؟!.
رأى المدينة ملبّدة بدخان كثيف وغريب، لم يسبق له أن رأى مثله.
– يا إلهي… ما هذا الدخان الرهيب؟، ونحن في منتصف آذار، والبرد على أشده!. هل أصاب المدينة حريق هائل؟.
أصوات الطائرات والقنابل، قطعت لديه الشك باليقين!.
– هي الحرب إذن؟. وماذا في الأمر، ونحن قد ترعرعنا وسط الحروب والموت!. ما لي أرى الناس يتساقطون متشنجي الأوصال، فاغري الأفواه، ولا دماء تسيل من أجسادهم؟!.
أحسَّ برائحة غريبة ونتنة، تخترق طيات عمامته، التي يتلثم بها، في مثل هذا الجو البارد.
– أوه… ما هذه الرائحة؟؛ إنها كرائحة الموت!.
لم يسِر إلا خطواتٍ، حتى أحس بزهرة حياته تذبل بين يديه، وعلى صدره الحنون!. نظر إلى طفله، وقد شحب لونه، وبدأ رأسه يميل إلى الخلف رويداً رويداً!.
لم يدرك عُمَر كـُنهَ ما يجري… لم يعرف سرّ هذا الموت الجماعي العبثي، الذي يطبق على خناق مدينته!. أسرع الخُطى نحو أول بيت رآه، ليدخله ويحمي طفله من الموت؛ لكن بابه كان موصداً!. خذلته قدماه في السير… دبَّ الموت في أوصاله شيئاً فشيئاً. أحس بجسده يتهاوى على الأرض، كجبل يتفتت!. جثا على ركبتيه، محتضناً طفله بكل ما أوتي من قوة؛ ليرتطم جبينه بعتبة الدار.
بدأ يهمهم، وهو يلفظ أنفاسه:
– لا… لا يا إلهي! لا تأخذ مني ولدي هذه المرة أيضاً!. لستُ سائلكَ عن نفسي، لكن لتـُبقِِ ولدي… أرجوك… يا إلهي… أ…ر…جو…ك!.