الانتحار والأبويات القاتلة

 إبراهيم محمود

عدة حالات انتحارية حدثت في قامشلي، تمثلت في نساء واعيات، وربما توجد حالات أخرى نسائية وغيرها، تخص الجنس الآخر، لا يشار إليها، أو يجري التكتم عليها فيها وخارجها، نظراً لأبعادها الاجتماعية ووازعها الديني الإيماني.

 ذلك ما يعبَّر عنه باستمرار أنماط من العقليات أو الذهنيات الأبوية أو الأحادية القاتلة في التربية العائلية، ومنها ما يجري في العلاقات الاجتماعية وحتى السياسية، وفي طرق التعامل بين أفراد المجتمع وعلى مختلف الصعد.
وبالمقابل، فإن هذه الحالات، وهي تتكرر، وتلفت الأنظار بين الحين والآخر، وفي أمكنة مختلفة، تترجم واقع حال سيئاً بأكثر من معنى، بقدر ما تشكل شاهد عيان على أن ثمة مشاكل تتنامى وتنخر في صلب الواقع المجتمعي دون مكاشفة لأسبابها، والقوى التي تغذّيها سلباً، وتعمل على بقائها ونمائها، ومن يكون المستفيد منها…الخ.
بداية، ثمة سؤال وجيه يطرح نفسه: ما الانتحار؟ إنه اللجوء إلى وضع حد لحياة شخصية ذاتية، بمسوّغات أو مبرّرات شتى، مهما تنوعت طرقه أو أساليبه: حرقاً، أو خنقاً، أو غرقاً، أو تجرعاً لكمية سم معينة، أو بمسدس…الخ، وهي حالات تكاد تقرب من الظاهر، وتفصح عما هو كارثي، حيث يغلب اليأس الأمل في البقاء، وحين يكون الانتحار الطريقةَ الوحيدة للفت الأنظار، والمحاولة الأخيرة والوحيدة طبعاً، للانتقام من مجتمع كامل، وليس من العائلة وحدها أو من يكون معنياً بها، باعتباره الآمر الناهي أو المسئول فيها، إنه الاحتجاج الذي لا مردود اعتبارياً له بالنسبة للمنتحر، لأن عائده ينعكس على المعني المباشر: الأهل، وداخل العائلة أولاً، ومن هو على صلة مباشرة بالمنتحر، أو يرتد الأثر على المحيط الاجتماعي، وتحديداً في الوسط الذي ينتمي إليه المنتحر.
هذه الحالات التي قاربت الظاهرة، وهي في ظهورها واختفائها ومن ثم حدوثها ثانية، وجعلها حديثاً لأحاديث مختلفة هنا وهناك، لزمن يطول أو يقصر، تبعاً لمقام المنتحر وموقعه في المجتمع، وطريقة الانتحار والمعنيين به، سرعان ما تختفي، كما هو أثر رمية حجرة في نهر، وتجلّي الفقاعة التي يحدثها، ليعود كل شيء على ما هو عليه، وهنا الطامة الكبرى.
 لا أحد، كما هو المطلوب، ينشغل بقضايا (وهي قضايا حقاً!) من هذا النوع، انطلاقاً مما هو سائد، بالعكس، ثمة كثيرون يعتبرون ذلك ومن دافع إيماني، إثماً، وجناية ذاتية، وأن العقاب سيكون فيما بعد، وهذا يغلق محضر الضبط في الحال، وثمة من يعتبر ذلك بعيداً عن اهتماماته، بدعوى أن الموضوع شخصي أو عائلي ضيق، وأن لا مجال للبحث فيه، وإنما هو من اهتمامات الجهات المختصة “في الدولة”، وكل ذلك ليس أكثر من التهرب من المجتمع، بقدر ما يظهِر مدى الابتعاد عن مسئولية ما يحصل، وليعبر كل ذلك، عن روح التفكك في المجتمع، رغم كل ذلك يقال عن التضامن المجتمعي.
إن ترك المنتحر مواجِهاً مصيره لاحقاً، مع ربه، كما هو مسوّغ الديني، بذريعة أن المنتحر ليس حراً في وضع حد نهائي لنفسه، كونه ملك مجتمعه، وأنه ليس حراً كما يعتقد ليتصرف مثل هذا التصرف الحدّي، إجراء في غير محله، لأن ثمة وضعاً اجتماعياً ونفسياً وفردياً، وأن الديني نفسه لا ينفصل عن سياقه الاجتماعي، وبالتالي فإن سؤال المنتحر لا يتوقف على ما هو ديني فقط، إنما ينطلق من ذات المجتمع، حيث إن المنتحر يُسأل عما هو معطى له، أو وفّر له، وبعد ذلك يجري السؤال عما دفع به إلى الانتحار، إن الديني في قلب المجتمع، حتى بالنسبة لليائس الكلي “بسبب مرض ما مثلاً” يكون الانتحار لديه خطوة ذاتية، لم يفكَّر فيها بعد، حيث لا يعود الوضع محتملاً، ومن هنا كان” القتل الرحيم”…
كأن وراء كل انتحار معين، إشعال نار، وفي صمت، وخوف الذين يعانون من خلل اجتماعي: عائلي، أو سواه، وسعي الجميع إلى إطفاء النار بالتي هي أحسن، دون مكاشفة لخلفية الحدث، وكأني بالذين يحجمون عن التعليق، يفتقدون الشجاعة في المواجهة، لأن ثمة تخوفاً مما يجري في وسطهم، حيث طبيعة العلاقات الاجتماعية والعائلية أو الأهلية تشهد توتراً أو انقساماً أو مشاحنات أو تراكم أحقاد ومكبوتات، وثمة خوف من انفجارها، ليكون التجاهل سبيلاً ما، لعدم المواجهة، وهو التعبير الأوفى عن عطب روح المسئولية، خلاف ما يزعَم عن الإيمان بوحدة المجتمع وغيره.
 إن المنتحر، يمثّل البطولة العظمى، لشخص يرمي بنفسه إلى التهلكة دون أن ينتظر مكافأة أو جائزة، أو تغييراً في مصيره، باعتباره وضع حداً نهائياً لحياته، ولكنه الإجراء المفصلي الذي يعني افتقاد الأمل بالبقاء كلياً، وموت روح المقاومة، وبالتالي، لتنقلب إرادة المقاومة إلى مساومة، وهذه إلى مواجهة بالذات بالذات، كما لو أن ذلك بمثابة إعلان قطعي عن مجتمع ميت وإدانة له بالكامل، لأن ثمة مشكلة يعيشها وتعذبه وليس من أحد يقوم بإسعافه أو مساعدته.
الانتحار، وانطلاقاً من بنية مجتمعنا الأبوية والوجاهاتية القاتلة، داخل البيت وخارجه، يفصح عن خلل مريع في المجتمع، بدءاً من طريقة التعامل بين الأبوين (والصحيح: الأب أولاً)، والأبناء، وحصر أي مشكلة عائلية داخل نطاق الأسرة، كما لو أن انتشار صداها خارجاً بمثابة الفضيحة، دون العلم بأن ذلك من شأنه مفاقمتها، وهذا يعني بالحرف: أن الذي يسود المجتمع ليس التوحد في المصائر الاجتماعية والأهلية، إنما بالعكس: التنابز والمكايدات المميتة وتفعيل الأحقاد.
لنقل، إن ثمة مسئولية تتحملها الجهات المعنية: الرسمية في المجتمع، ولكن ذلك ليس أكثر من تفسير الماء بالماء أولاً، لأن الجهات هذه لا تنفصل عن المجتمع، وربما الأنكى من ذلك أن هذه الجهات تعاني من ذات المشاكل، وتعيش اضطرابات في السلوك الاجتماعي وسلامة النفس، وحقيقة المؤمَّن به وما يكونه الدين واقعاً، أكثر من سواها نظراً لانفصالها عما يجري في المجتمع، عبر العالم الذي اقتطعته أو سوَّرته ومن ثم حددته لنفسها.
يجري ذلك، وفي عالم الميديا والتواصل الفضائي والانترنتي: الفيسبوكي وسواه، وما يعني ذلك أو يتطلبه من ضرورة توسيع حدود التعاطي القيمي والوجداني بين الأفراد، وداخل الأسرة بالذات، والدفع بالمعني أولاً (من يعتبر نفسه قبل كل شيء “رب الأسرة”، وثقل العبارة)، إلى تغيير سياساته التربوية بالجملة، لأن ثمة وضعاً جديداً، حيث الانتقال إلى موقع النظير أو مصادقة الأبناء، أو إشعارهم أنه ليس أكثر من صديق، وأن في وسعه تقديم العون إن طلِب منه ذلك، وأن مفهوم الأبوية ليس أكثر من خاصية بيولوجية، لتخفيف الضغط الأبوي على مناخ الأسرة بالذات.
 إن الانتحار، وبوصفه مشكلة تقوم على وجود أضحية مقدمة ذاتياً، وليس خللاً يتطلب تقويماً وإصلاحاً، كون المنتحر شخص انتهى أمره، يمثّل تحدياً لكل شخص فينا، وهو يفرض علينا حضوره، إذا أردنا أن نفكر بعقولنا خارج نطاق الأبوية الضيقة والأفكار العقيدية المجدبة، لأن المنتحر منا وفينا، وهو الشعور الأكثر تجلياً بالقيمة الأخلاقية التي تفرض علينا، كما أن الانتحار هذا لا يعني الآخر: الغريب، الخصم، غير المعروف، إنما يعني المؤثّر في موقعه العائلي أو الاجتماعي، ومن يسمّيه هذا الموقع: رجلاً أو امرأة، فتى أو فتاة، صغيراً أو كبيراً، ليكون لدينا إيمان جماعي بخطورة الحادث، وموضوعاً قيد الدرس والمساءلة حيث نكون، وفي منابر ثقافية واجتماعية مختلفة.
 إن الصمت المطبق أو يكاد، والذي يُخص به هذا الانتحار عبر ضحاياه، كما هو المتداول والملموس، يفصح عن نفاق اجتماعي، وكذب بالجملة، وجبن في المواجهة، وتفكك في بنية العلاقات المجتمعية، وتحديداً، بالنسبة للذين يعتبرون أنفسهم المعنيين الأُوَل بما يجري سواء أكان الانتحار أو أي مشكل اجتماعي آخر. والحديث عن تضافر الجهود ليس عملية ” فزعة” أو حشد قوى لا التعيين، وإنما إيجاد من لديه الأهليه لوضع النقاط على حروف المشكل، وقبل كل شيء، من جهة الذين يعتبرون أنفسهم المتأثرين بذلك، وتشكيل قوة مجتمعية وثقافية تنويرية ضاغطة على الذين يخافون مما يجري، أو لأنهم يمارسون أدواراً اجتماعية : أبوية وسواها، تسهم في استمرارية الانتحار ونتائجه الوخيمة.

 إن ما تقدمت به، ليس أكثر من صرخة روح مجروحة مما يجري، ودعوة موجهة إلى الحريصين على مجتمعهم وليس جيوبهم طبعاً، بالتحرك وتسمية الخطأ باسمه، كي لا نشهد مثل هذه الفجائع، حتى لدن من يجد نفسه بمعزل ما عنها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…