الديك الكُردي ومزبلة التاريخ

 ابراهيم محمود 

لا أحد يتمنى أن ينتهي به الأمر إلى مزبلة
التاريخ، لأنها تعني النهاية الوخيمة بالتأكيد، إذا كان حريصاً على نفسه أو سمعته
أو من يهتم بأمره كذلك، لكن ثمة في الجوار ذلك المثل القائل والمشهور والذي يربط
بين الديك والمذبلة :
 ( كل ديك على مزبلته صيّاح Every is brave on his dunghill )، وكأن الديك هنا يعنيه أمر مزبلته، وهو يشير
إليها وبها يعرَف، وينبش فيها بالمقابل، وحتى يعتاش عليها، لهذا يأتي صياحه ”
كوكأته ” لفت نظر إليها، لأنها تخصه بالذات، أي تكون دائرة تجلوه. هل للديك
الكردي مزبلة تعنيه كأي ديك من حوله ؟
لا بد أن المهتم بأمر المثل الشعبي لحظة
قراءة ما تقدَّم يسخر من هذا التركيب أو التوليف، لأن المثل هذا معروف بمعناه
التالي: ثمة من يتباهى بنفسه في بيته أو مكان محدد، ولكنه دون هذه القيمة التي
يهبُها لنفسه، إنه فاقد الشجاعة والجرأة خارجاً. أي يضرَب المثل في من يدعي
الشجاعة وهو دونها، وكأن ادعاء الشجاعة” صياح الديك ” يفضحه: تواجده
على مزبلة
!
في هذا المنحى المعايَن، يمكن القول أن لا
أحد بقادر على ادعاء أنه بعيد عن ” النزعة الديكية : الديكنة ” بنسبة
ما، لكن الحديث عن الديك جهة التعبير عنه ومكانه وزمانه يدفع بنا إلى خاصية هذا
الديك: الكردي الذي يكون ديكاً تماماً . 
 
إن ما هو معروف في الكردي ومن منطق كونه
ديكاً بالمقابل، ولا بد أن تكون له مزبلة، أو ما يجعله مشدوداً إلى مزبلة متباهياً بنفسه
عليها أمام الآخرين، ما هو معروف عنه، هو أنه في حاجة إلى أكثر من وقت إضافي وكافٍ
بالنسبة لعلاقته بالآخرين الذين يحاولون ربطه بمزبلة وتوصيفه بديك صيّاح كغيره،
لأن الحرمان من وطن للإقامة يحمل هوية باسمه، ضمن جغرافيا سياسية لها حدودها، وما
يترتب على كل ذلك من توافر مكونات ثقافية ولغوية واجتماعية ونفسية…الخ، حرمان لا
يبقيه على تماس مع مزبلة كتلك التي يعرَف بها من حوله، أو حتى الذين آثروا، ومنذ
زمن طويل في أن يكون دون اسمه، دون اللغة التي تعرّف به مباشرة، بقدر ما كان هناك
تمييز موجَّه، مزوَّر، لخاصيته وهو أن يكون ديكاً في الكثير من الأحيان وهو يصيح
على مزبلة الآخرين، أي حيث لا تكون لديه مزبلة معروفة بموقعها وتخومها. 
 
ما أكثر ما دفِع بالكردي إلى التحرش به،
والنيل منه، والإساءة إليه، وهو باسم يفسّر بلغات من تقاسموه تاريخاً وجغرافيا خارج لغته، وهو
حتى بمقومات ثقافية وتربوية وسياسية ومؤهلات وجد نفسه مثقِلا ً بها لأزمنة
متعاقبة، وبالتالي، فإن الصياح الذي قدّم أنه يعنيه كان فرضاً عليه، وأن المزبلة
التي أحيلت إليها وصوّر من خلالها كانت مزبلة غيره كذلك. 
 
ولمن يريد أن يعلم،أو من باب الإعلام، فإن
مقيم البيت وهو صاحبه، وكما هو معروف، كان قادراً أن يرسم حدوداً لمزبلة أمام بيته أو
مزبلة ليست أكثر مما كان يخرج من بيته من زبل ” روث ” وهو التعبير الذي
يرجعنا إلى حاضرة القرية أو حاضنة الريف بجلاء، والديك بدوره طائر أهلي يحيل على
القرية، أي خارج المدينة، وفي الوقت الذي كان الزبل يستفاد منه في مقام سماد
للأرض، أي حيث تتواجد مجموعة إحداثيات تسلط الضوء على ملْكية الشخص بالذات . 
 
في المحصّلة يكون التوصيف الدّيَكي نفسه
غريباً على الكردي، فلا يبقى سوى الكردي الذي ينتظر اسمه، ومحل إقامة فعلية: وطنية وقومية
وثقافية لها موقعها في الخارطة السياسية للعالم، ومعترف بها على هيئة وطن: دولة:
كيان سياسي، وحينها لا بأس، لا بل لا مناص من الحديث الديك الكردي وصياحه على
مزبلته، ودون ذلك يكون إقحامه فيما لا يعنيه. 
 
بالتناظر، تبقى مزبلة التاريخ، وهي نصف
العقدة الأخرى من الموضوع، إنما لتسليط الضوء على المأسوي والمفارق للكردي تاريخاً
وجغرافياً، وهي أنها واقعة كبيرة ومشخَّصة، وحسية ولها رائحتها الحرّيفة، قل :
النتنة، والتي تميت أحياناً، وخاصة لمن لم يعتد العيش بجوار مزبلة أو عليها، أو هو
محروم من بيت ملْكية أو وطن في بطاقته الشخصية، لتكون مزبلة التاريخ، مزبلة الذين
تزاحموا عليه واستأثروا بثرواته وخيراته وحتى مقدراته النفسية والعقلية، وجيَّروا
فيه ما يبقيه المتحرك على مزبلة، والمقيم بجوار المزبلة، والمعرَّض كتقدير على
مزبلة، وهي مزبلة تاريخ الآخرين. 
 
أطلقوا سراح الكردي، حينها صفوه بالديك، بديك
يصيح على مزبلته كغيره، وابحثوا عن مزبلة التاريخ من حوله، ومن هو الفاعل فيها: تحديد
مكان وتعيين زمان، و: انبعاث روائح، لا يستشعرها أهلوها الأوَل لتجردهم من
الإنساني فيهم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

 

رجع “أبو شفان” إلى البيت في ساعةٍ متأخرة، يجرّ خطواته كما لو كانت أثقل من جسده المنهك. وجهه مكفهر، ملامحه كانت كمن ذاق مرارة أعوام دفعةً واحدة. ما إن فتح باب الدار، حتى لمح ابنه البكر “مصطفى” جالسًا في العتمة، ينتظره كأنه ينتظر مصيرًا لم يأتِ بعد.

– “أهلاً أبي… تأخرتَ الليلة”.

– “كنتُ في مشوار…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

مَدرسةُ فرانكفورت ( 1923 _ 1970 ) هِيَ مَدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفةِ النَّقْدية ، مُرتبطة بمعهدِ الأبحاثِ الاجتماعية في جامعة غوتة في مَدينة فرانكفورت الألمانية ، ضَمَّتْ المُفكِّرين والأكاديميين والمُنشقين السِّياسيين غَير المُتَّفقين معَ الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية المُعَاصِرَة ( الرأسماليَّة ، الفاشيَّة ، الشُّيوعيَّة ) في ثلاثينيات القرن…

عبدالاله اليوسف

 

لكن الهواءَ يحفظُ صوتكَ في الشقوق

بين تنهيدةٍ

ونَفَسٍ لم يُكمِلِ الطريق

 

قلبُكَ

ساعةٌ لا تُعيرُ الوقتَ اهتمامًا

تمرُّ عليها الأزمنةُ

ولا تشيخ

 

تخجلُ

من مرايا الوجوه

فتعيدُ تشكيلنا

كما تشاء

كأنك تصنعُنا من بُعدٍ

بحركةِ عينيك فقط

 

نلتفت

حولنا

أضيافك

نرتدي ظلالًا

ولا ندري

غريب ملا زلال

ليست سوى الحرب
تأكل أضواءنا
و رجالها
في دهاليز المملكة
يكيلون دماءنا
مُذ عرفت
أن الرب
في عليائه يستريح
كمحارب قديم
أتى تواً
من الجبل
و أحلامنا ..
آمالنا
تذهب في الريح
بحثاً عن أشلائنا
هل كانت الأمور
في السموات العشرة
على ما يرام
حين خلت المدينة
من أبنائها
إلا من بقي نائماً
تحت الركام
و زخات المطر
بعد القصف
هل كانت
دموع الرب في عليائه
على عباده
أم كانت
رذاذات صرخة
لطفل يبحث عن أمه
كل المعابد
لا تصلح لإطفاء الحريق
فالرب متعب
والكهان متعبون …