أقفال

خاشع رشيد
حين ينسلخ لغز ما من تدافع أبعادٍ حسّيّة تكون قد أيعنت لتأخذ نموذجاً نهائيّاً في التّداخل القادم لا محالة، يصبح كما مشتقّ أنثويّ يستغلّ استنفاده المبكّر، ليس في هذا إلا شكٌّ واضح. فإنّ الحوادث النّاجمة عن اقتياد هكذا هامش قد تكون مترنّحة في القرار، فتتعدّد المسارت التحليليّة محاولة تقزيم التقارب الذي يتشكّل، شيئاً فشيئاً، على طول امتداد الإدراك وتفاصيل أثره، وهو إلى المطلق. كما العبث مع النّفس في انتفاضٍ مفاجئ مباشر على لحظةٍ لا تقدّم أي جديد مختلف.  
أعلم أنّ الكثير يرونه بهيئات، ربّما أجمل، أنا لم أتفنّن في أيّة منها، لست بارعاً في هذا، هم أرادوها أبعد…!!
قد تكون هي، وهو كلّ هذا…!! لا يخحل حين يردّد ما كان يقوله له، ولا يخفي كلّ ما اقتبس منه، بل إنها أمنية والدته وأمانته له، تركها فيه حين لم يكن، وذهب مع الدّعسوقة دون وداع، أخذته بين جناحيها، هي أخذت جهاته السّت على بقع كلّ جناح وتركته مع البقيّة الغامضة… 
    تعالوا نركع لهذه اللقمة كي ترحم معدة من يحيينا عموماً، هيّا بنا لتجهيز شهادة عقليّة وحسّيّة تحت أقدام ذلك الملاك الحامل لحرّيّتنا، يتغذى وطناً في كلّ لحظة، إنّه الوطن بعينه، يطيّن رغيفه، إناؤه مليء بأسمائنا، يشرب دموع وعرق أصدقائه، دعونا نرفع لأجله لافتات من قلوبنا في وجه العهرة هذه المرّة، فلنحمه تاريخاً… قد لا تكون له عودة إلا ليقبّل جبينه وعينيه… دعسوقته تأخذ توأمه وتحطّ على وشاح رقبته.
    لموعدٍ يجتازه زمناً، يعانده في كلّ سولكيّاته، يلاحقه كما لو أنّه لم يذهب قط، إنّه لا يكون، أو يأتي دون أن يكون هو، كلاهما يخنقانه في أنفسهما، ينتظران ما بعد ذلك المدار العاطفي، أحدهم يصفه بالحالة الفزاعيّة الدائمة لفوضاه، وآخر يصفه بإجمالي الذروات الداخليّة التي أُنشأت في عمق المصائب المؤجّرة من حلقات لاتوازن جنسوي… يقبل ما قد لا يقبله مستمعي أحاديثه على مصطبات كلّ ما رحل، دون بحثٍ عن أعذار. تكبره في الطّلب، فيزداد الضّبط على شراهة نوعيّة عشقٍ أكثر شراسةٍ من أيّ وقتٍ مضى.
    قيل الكثير عنه في ذلك الوقت، أمّا الآن فكلّ العامّة نسته، لم يعد له وجود فيهم، إلا أنّه لا يزال حيّاً، في مكان آخر، ينسج بعض أمورٍ لأزمنةٍ تكاد تصطفّ في خفاء حقد، يعيش كما غيره، لكنّه قلّما يخرج من الغرفة، حتّى وإن خرج فإنّه لا يملك عيوناً، أعني أنّه يخرج مغمض العينين، إنّه يخاف النّور، هو لا يرى، هو لم يكن يريد رؤية الكثير من الأشياء… وأخيراً أعطاه مَن قبله ما يريد. وتلك الإمرأة، ذات الشّعر الأسود الفاحم، حين ارتدافها، يترك الكثير من نفسه معها. 
    فجأةً؛ تبوّل على أجمل وأعقل فتاة كانت في المجموعة، كان ذلك حين جلسوا في صفّ واحد في تلك الحديقة، الحديقة الحبلى بذكريات جميعهم، كانوا مجموعة صغيرة من الأصدقاء والأحبّة، لا أعلم كيف وصلوا إلى هناك ولماذا، البعض كان يغنّي والبعض صامت ينظر للبحر ـ الحقيقة أن المدينة لا تطلّ على بحر، إنّها دماء شهداء فحسب ـ فجأة صراخ الفتاة، أمسكوا ذلك الشّخص بسهولةٍ فهو لم يوقف تبوّله، كأنّه كان مقتنعاً بذلك، هذا يعني أنّه لو لم تبتعد لكانت قد تبللت بشكلٍ كامل، لم يقترب أحد، لم يتدخّل أحد، الحديقة أصبحت فارغة في لحظات، البعض هرب خوفاً على قططهم وكلابهم، واختبأ من تبقّى، الأصدقاء من كلّ طرف انهالوا عليه بالضّرب، اقترب من صديقته ودفعها مباشرة للبحر ومن ثمّ اتّجه للبقيّة، وجهه على الأرض وتسيل الدّماء من كلّ مكان، بعد صياحٍ وجدالٍ قصيرين أوقفهم، فدار الحوار النّاقص التّالي بينه والشخص:
ـ لماذا؟
¬* كنت في حاجة لذلك.
ـ ولماذا هنا؟
* كانت آخر لحظة، لم أتحمّل بعد.
ـ لماذا عليها؟
* أنا لم أخطّط لذلك، وأعلم أن ليس كلّ مكان يكون لائقاً لذلك، لكن لم أكن أملك أيّ خيار آخر… لم أعد أرى كلّ شيء.
ـ هل أنت أعمى؟
*أحياناً…
أقسم؛ ليست كما تبدو، إنها فقط كما الإرجاز مفاخذة… لسان حال فراغ فكريّ ما.
    هناك عودة لا ترونها، لا تدركونها، لا أنتم ولا أنا نعي ما يحدث بنا هذه اللحظة، نصرخ بلا انقطاع، نحن نؤخذ مع ترنيمة عذاب زمنيّة، نُسحب، نَسرق، أعمارنا طويلة لدرجة أنّنا نبحث عن طريقة لتقصيرها، لا نثق بمساواة مقاسات الزّمن من حيّز لآخر، نحن لا نؤمن بالتدفّق الإنسانيّ في التجارة، نحن كورقة نقديّة نُنقل من يد لأخرى، نصبح وليمة، هدفاً وسبباً في كلّ شيءٍ، نحن محرقة… لأننا هكذا ولأن كلّ ذلك ليس إلا حصيلة استكلاب الأغنياء. هيّا بنا نقترب أكثر، نتعمّق أكثر، نخرج من وراء السّتائر، نبدأ حديثاً عن أنفسنا قليلاً ـ قد لا تكون أكثر من تأثير إبرة موخوزة في هذا الظلام ـ أنا هنا وهناك، أنا لم أعد قادراً، الحياة في شكل كلّ وضيع ومنحطّ تثقب صدري بقبضتها، بكلّ قواها، لا أعلم إن كنت أريد البقاء أكثر بصورة كذبة زمنيّة، محاولاً إخفاء نجوم كنت أملؤها في عيونكم حين يهمس الموت لي كلّ مرّة، قد تكون هزيمة من إحدى التحوّلات الروحيّة، أنا الآن أبتعد، لا أتسابق، أنا في فقدانٍ دائم، قريباً سنفترق دون أن أنهي تجميع نفسي منكم، وهذا يعني عصيانكم الدّائم واستمرار تعاهد لاإراديّ… 
كيف يمكن أن يصبح هذا حلماً؟
    الحيلة في تعرّف الزّمن على ما لم ينتبه له الذّنب حين الإقرار في تشكّله، ولاشكّ في أنّه بادّ معه مقابل ازدرائهم الذي قد يكفيه أحد أعماره، ليس لأنّه لا يأبه، إنّما يتداخل هذا التصوّر الغير معرّف في اعتبار ضمان استمراريّة لاعقلانيّة، إفريز الفكر هنا يتعدّى التعبير بكلّ ما أوتي من تفاصيل، فليس احتساب هذا التّفريط العمقي أيضاً إعتدالاً أو توسّطاً لهم. 
أسقطهم وأسقطهم… أسقطهم على شهواتي التي تبدّلت لأجلهم في هذه الأسطر، أسقطهم لغةً وفكراً، وبكلّ ما أملك، فأنهي سقوطهم بـ لامعنى.
………………………………………………………

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

 

رجع “أبو شفان” إلى البيت في ساعةٍ متأخرة، يجرّ خطواته كما لو كانت أثقل من جسده المنهك. وجهه مكفهر، ملامحه كانت كمن ذاق مرارة أعوام دفعةً واحدة. ما إن فتح باب الدار، حتى لمح ابنه البكر “مصطفى” جالسًا في العتمة، ينتظره كأنه ينتظر مصيرًا لم يأتِ بعد.

– “أهلاً أبي… تأخرتَ الليلة”.

– “كنتُ في مشوار…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

مَدرسةُ فرانكفورت ( 1923 _ 1970 ) هِيَ مَدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفةِ النَّقْدية ، مُرتبطة بمعهدِ الأبحاثِ الاجتماعية في جامعة غوتة في مَدينة فرانكفورت الألمانية ، ضَمَّتْ المُفكِّرين والأكاديميين والمُنشقين السِّياسيين غَير المُتَّفقين معَ الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية المُعَاصِرَة ( الرأسماليَّة ، الفاشيَّة ، الشُّيوعيَّة ) في ثلاثينيات القرن…

عبدالاله اليوسف

 

لكن الهواءَ يحفظُ صوتكَ في الشقوق

بين تنهيدةٍ

ونَفَسٍ لم يُكمِلِ الطريق

 

قلبُكَ

ساعةٌ لا تُعيرُ الوقتَ اهتمامًا

تمرُّ عليها الأزمنةُ

ولا تشيخ

 

تخجلُ

من مرايا الوجوه

فتعيدُ تشكيلنا

كما تشاء

كأنك تصنعُنا من بُعدٍ

بحركةِ عينيك فقط

 

نلتفت

حولنا

أضيافك

نرتدي ظلالًا

ولا ندري

غريب ملا زلال

ليست سوى الحرب
تأكل أضواءنا
و رجالها
في دهاليز المملكة
يكيلون دماءنا
مُذ عرفت
أن الرب
في عليائه يستريح
كمحارب قديم
أتى تواً
من الجبل
و أحلامنا ..
آمالنا
تذهب في الريح
بحثاً عن أشلائنا
هل كانت الأمور
في السموات العشرة
على ما يرام
حين خلت المدينة
من أبنائها
إلا من بقي نائماً
تحت الركام
و زخات المطر
بعد القصف
هل كانت
دموع الرب في عليائه
على عباده
أم كانت
رذاذات صرخة
لطفل يبحث عن أمه
كل المعابد
لا تصلح لإطفاء الحريق
فالرب متعب
والكهان متعبون …