عبدالحميد جمو
كلما حلت ذكرى حريق سينما تتداول مواقع التواصل الاجتماعي صورة لامرأة تجلس على سرير، بجانب طفل من الواضح أنه من ضحايا ذلك الجحيم الذي ألظت ألسنته مئات الأطفال الأبرياء، ولكن تكرار تلك الصورة للمرأة خلق لدي فضولا لمعرفة:
من تكون تلك المرأة، ياترى؟
بدأت بمراجعة الوثائق والأفلام التي وثقت الكارثة إلى أن توصلت لمعرفة ان المرأة الظاهرة في الصورة هي السيدة الفاضلة (فريدة علي) أم الشهيد أحمد والدة الشهيد الناجي محمد والدة الكاتب والباحث والشاعر الكوردي الغني عن التعريف الأستاذ (دلاور زنكي) والأم الروحية للعديد من الأطفال الذين أنقذتهم هي، والملقبة بين أبناء بلدتها باسم أم الشهداء. اسمحوا لي أن أنعتها بالبطلة.
لقد بحثت في المراجع فلم أجد فيها ما يشير إليها، اللهم إلا وثيقة في كتاب عامودا تحترق ل حسن دريعي على ما يبدو أنه وثق أقوالها بايجاز. تواصلت مع الأستاذ دلاور زنكي الذي أجاب عن أسئلتي برحابة صدر، فقررت أن أكتب عن ملحمة سطرتها امرأة. امرأة لم يرد ذكرها إلا نادرا، كما أسلفت في التحقيقات التي وثقت الكارثة، فقد تم التغاضي عن ذكر تضحيتها وبطولتها وشجاعتها، لا لشيء سوى إنها امرأة كوردية أخذني الحماس للكتابة عنها.
ترددت كثيرا قبل أن أخوض غمار المغامرة، وأحلق في سماوات ملاك تملأ الروح بنشوة الأمل. تلك الوادعة الصامتة الصامدة. تلك المكافحة المناضلة المطوية الذكر في دوائر النسيان المهملة في دروج الإهمال. هي المعطاء التي لم تمل ولم تكل. الجوادة التي غفل عنها وعما قدمته، كونها امرأة مقيدة محكومة بالعادات، و رهينة التقاليد. مغيبة بين ظلال المجتمع الذكوري، رغم إنها سليلة الأعراق ولعائلتها بصماتها في التاريخ.
حينما أردت الكتابة عنها لأزيل الغبار عن ملحمتها، وأظهر شجاعتها وبطولتها التي لا يستطيع أحد تقديمها سوى من تتمتع بخصال الأمومة، وليس أية أم. بل الأم التي تهز السرير بيد فعليا، وتهز العالم بالأخرى،
لم التقها ولم أرها، لكني شاهدت صورتها بجانب سرير طفلها، شامخة بزيها الكوردي، يشع الإصرار من عينيها. لم يستطع الأسى إخفاء صلابتها رغم آثار الحزن الواضحة المرتسمة على ملامحها، سمعت حكايتها فسرت القشعريرة في جسدي. تملكني خوف شديد. ارتعدت فرائصي .ارتجف جسدي. لم أعد قادرا على الإمساك بالقلم.
كنت ولازلت خائفا. خشيت إن أكتب عنها فأبخسها حقها و.لا أفيها ذلك الحق، فتقع ضحية الغبن مرة ثانية، وأكون انا المتسبب في ظلمها هذه المرة، ويكون ظلمي لها أكثر إيلاما من التاريخ الذي ظلمها.
ترددت كثيرا وتوقفت لأفكر مليا بين الرغبة والامتناع، لكن كان هناك في داخلي هاجس يناديني. شيء، يحثني على الكتابة شيء يدفعني دفعا لأحمل شرف تدوين اسمي تحت فيء اسمها ليرتبط بتاريخها وكل سجاياها فقررت ان أدلو بدلوي .وأخط بضعة أسطر انصافا لها
فريدة علي (1915._2005) المرأة الحديدية قاهرة النار التي عاشت تفاصيل كارثة حريق سينما عامودا، وقفت في وجه النار. حاربتها بل هزمتها، وانتصرت، ففقدت اثنين من أطفالها أحدهما شهيد والآخر نصفه شهيد ونصفه معاق، لكنها كسبت محبة قلوب كل من أنقذتهم، وحازت على لقب أم الشهداء.
فردت جدائلها رفعت أردان الثوب إلى خصرها. شدته بنطاقها. اقتحمت المكان وسط صرخات وعويل و أنين الأطفال المحاصرين بالأتون، داخل قاعة سينما عامودا. لم تبال باللهيب المستعر، ولا بألسنة اللهب الفتاكة التي تتجه صوبها كالسهام النارية. تهاجمها كتنين هائج. كانت تبعد تلك النيران بيديها العاريتين. كل همها إنقاذ طفلها. نعم طفليها. أطفالها. فهي تعتبر كل أبناء عامودا أولادها، رغم أن لها طفلين من صلبها (محمد _ أحمد) في ذلك الجحيم، إلا إنها لم تميز بينهما وبين الأطفال الآخرين. غريزة الأمومة غلبتها، وبدأت بإنقاذ من يقع تحت يدها دون رؤيتها المحجوبة، بسبب الحرارة والدخان الخانق الكثيف كانت تحمل في كل مرة طفلين أو ثلاثة، وترميهم للمجتمعين أمام الدار وتعود مسرعة لتكمل مهمتها.
في ذلك الوقت كان محمد سعيد آغا الدقوري الذي هب كذلك لإنقاذ الأطفال. وغدا ضحية أحد الأعمدة الحديدية التي حبسته تحت ثقلها، وكتمت أنفاسه، إلى أن لفظته شهيدا وظلت الأم فريدة علي. أم الشهداء تسطر ملحمة خيالية، مستمرة بعملية الإنقاذ إلى أن تمكنت من إنقاذ ما يقارب العشرة أطفال، بحسب ما وثقه الاستاذ حسن دريعي، في حين تقول إنها أنقذت أكثر من هذا العدد بكثير، (وهذا ما أكده نجلها الأستاذ دولار نقلا عنها) وكان جميع الناجين ينادونها (يادي) دون أن يكون ولداها من ضمن الذين أنقذتهم .
فقد فقدت حد أبنائها (احمد .. /1953) الذي استشهد وعثر على طفلها الآخر (محمد /1951 _2009)) حبيسا في دكان كان الأطفال يلتجئون اليه، هربا من أتون الجحيم كشهيد حي، كونه تعرض لأذى كبير فقد أكلت النيران نصف جسده الغض، وبقي يعاني من تلك التشوهات التي أقعدته طريح الفراش إلى ساعة وفاته .
لم تنته القصة إلى هنا. لكن بدأ فصل آخر في رحلة المعاناة فقد خلفت الكارثة العديد من الويلات عدا عن الفقد والصدمة النفسية والحزن الذي خيم على أبناء عامودا بشكل خاص، وعلى عموم منطقة الجزيزة .
فقط بدأت ام الشهداء مع زوجها المكلوم الحاج إسماعيل المتوفي سنة 1979 رحلة علاج شهيدهما الحي. النيران لم ترحم جسده الغض أكلت نصفه وتركت النصف الآخر شاخصا أمام ناظري والديه الحاج اسماعيل والام فريدة تذكرهما بهول الفجيعة
لم يتركا بابا الا طرقاه بحثا عن علاج ولدهما الناجي دون أي جدوى وحينما عجزا
وأيقنا أن علاج محمد بات مستحيلا أذعنا واستسلما للقدر، راضين بقضاء الله ..
ولكنها (الأم البطلة فريدة) أبت أن تتوقف وأصرت على تكمل مهمتها التي أناطها الله بها و عملها البطولي الذي غفل عنه كل ما وثق تلك الكارثة
الأم (فريدة) بالرغم من ضنك العيش وضيق ذات اليد والظروف المعاشية الصعبة. بالإضافة إلى الآثار السلبية التي أثرت في نفسيتها وعلى صحتها وخصوصا، بعد فقدانها لزوجها، حملت على عاتقها مسؤولية الاهتمام بابنها الناجي الذي راقب أرواح أقرانه وهي تصعد للسماء تعانق الملائكة. شاهدا على مأساة العصر، تعتني به، وتلبي له كل ما يحتاجه وتحاول بكل ما فيها أن تمحي من ذاكرته آثار صدمة الكارثة وهي من داخلها تحترق ألما على ابنها الفقيد، وابنها الحي المحسوب على الشهداء، وعلى حالها، وعلى بؤسها فلم تكتف النيران بتشويه جسده، ولكنها حرمته أيضا من ممارسة حياته الطبيعية كأي شاب ظل مقعدا هزيلا مريضا حبيس الفراش، إلى أن توفاه الله في عام 2009 ليلحق بوالدته التي رحلت قبله بأربع سنوات (2005) وفي قلبها غصة وجرح لم يندمل.